«الورقات - جدة»:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[1]. ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[2].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[3].
أّمَّا بَعدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الكَلامِ كَلاَمُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّم، وَشَرُّ
الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
وبعد
فقد بدا لي أن أجعل كلمتي في هذه الليلة بديلاً للدرس النظامي حول موضوع:
(احتفال كثير من المسلمين بالمولد النبوي)، وليس ذلك مني إلاَّ قيامًا
بواجب التَّذكير وتقديم النُّصح لعامة المسلمين؛ فإنَّه واجبٌ من الواجبات
كما هو معلوم عند الجميع.
جرى
عرف المسلمين من بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيْرِيَّة على
الاحتفال بولادة النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبدأ الاحتفال بطريقة،
وانتهى اليوم إلى طريقة، وليس يهمُّنِي في هذه الكلمة الناحية التاريخية من
المولد وما جرى عليه من تطورات؛ إنَّما المهم من كلمتي هذه أن نعرف موقفنا
الشرعي من هذه الاحتفالات قديمها وحديثها.
فنحن
معشر أهل السنة لا نحتفل احتفال النَّاس هؤلاء بولادة الرسول صلَّى الله
عليه وعلى آله وسلَّم؛ ولكننا نحتفل احتفالاً من نوع آخر.
ومن
البدهي أنني لا أريد الدَّندنة حول احتفالنا نحن معشر أهل السنة؛ وإنما
ستكون كلمتي هذه حول احتفال الآخرين لأُبيِّن أنَّ هذا الاحتفال وإن كان
يأخذ بقلوب جماهير المسلمين؛ لأنهم يستسلمون لعواطفهم التي لا تعرف قيدًا
شرعيًّا مطلقًا؛ وإنما هي عواطف جانحة.
فنحن
نعلم أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم جاء بالدين كاملاً وافيًا
تامًّا، والدِّين هو كل شئٍ يتديَّنُ به المسلم ويُتقرَّبُ بِهِ إلى الله
-عزَّ وجلَّ-، ليس ثَمَّة دين إلا هذا. الدِّين هو كل ما يُتديَّنُ به
ويُتقرَّب به المسلم إلى الله -عزَّ وجلَّ-،ولا يمكن أن يكون شئ ما من
الدِّين في شئ ما إلاَّ إذا جاء به نبيُّنا صلوات الله وسلامه عليه.
أمَّا
ما أحدثه النَّاس بعد وفاته صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، ولا سيما
بعد القرون الثَّلاثة المشهود لها بالخيرية؛ فهي -لاشك، ولا ريب- من
مُحدَثات الأمور، وقد علمتم جميعًا حكم هذه المحدَثات من افتتاحية دروسنا
كلها؛ حيث نقول فيها كما سمعتم آنفًا: (وَخَيْرُ
الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّم،
وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ).
ونحن
-وإياهم- مجمعون على أنَّ هذا الاحتفال أمرٌ حادث، لم يكن ليس فقط في عهده
صلى الله عليه وسلم؛ بل ولا في عهد القرون الثلاثة كما ذكرنا آنفًا.
ومن
البدهي أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حياته لم يكن ليحتفل
بولادته؛ ذلك لأن الاحتفال بولادة إنسان ما إنما هي طريقة نصرانيَّة
مسيحيَّة لا يعرفه الإسلام مطلقًا في القرون المذكورة آنفًا؛ فمن باب أولى
ألاَّ يعرف ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، ولأنَّ عيسى
نفسه الذي يحتفل بميلاده المدَّعون اتباعه، عيسى نفسه لم يحتفل بولادته مع
أنها ولادة خارقة للعادة؛ وإنما الاحتفال بولادة عيسى عليه السلام هو من
البدع التي ابتدعها النَّصارى في دينهم، وهي كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾[4].
هذه البدع التي اتخذها النَّصارى؛ ومنها الاحتفال بميلاد عيسى ما شرعها الله -عزَّ وجلَّ-؛ وإنما هم ابتدعوها من عند أنفسهم.
فلذلك إذا كان عيسى لم يحتفل بميلاده، ومحمد صلَّى الله عليه وسلَّم -أيضًا- كذلك لم يحتفل بميلاده والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[5]؛
فهذا من جملة اقتداء نبيِّنا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وهو نبينا أيضًا
ولكن نبوَّته نُسِخَت ورُفِعَت بنبوَّة خاتم الأنبياء والرُّسل صلوات الله
وسلامه عليهما؛ ولذلك فعيسى حينما ينزل في آخر الزمان كما جاء في الأحاديث
الصحيحة المتواترة؛ إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذن
محمَّد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم لم يحتفل بميلاده؛ وهنا يقول بعض
المبتلين بالاحتفال غير المشروع، الذي نحن في صدد الكلام عليه؛ يقولون: إن
محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما راح يحتفل بولادته، طيب سنقول: لم
يحتفل بولادته عليه السلام بعد وفاته أحب الخلق من الرجال إليه، وأحب الخلق
من النساء إليه؛ ذالكما أبو بكر وابنته عائشة -رضي الله عنهما- ما احتفلا
بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك الصحابة جميعًا، كذلك التابعون،
كذلك أتباعهم، وهكذا
إذن لا يصحُّ لإنسانٍ يخشى الله، ويقف عند حدود الله، ويتَّعِظَ بقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[6].
فلا يقولنَّ أحد الناس الرسول ما احتفل؛ لأن هذا يتعلق بشخصه؛ لأنه يأتي
بالجواب: لا أحد من أصحابه جميعًا احتفل به عليه السلام، فمن الذي أحدث هذا
الاحتفال من بعد هؤلاء الرجال الذين هم أفضل الرجال، ولا أفضل من بعدهم
أبدًا، ولن تلد النساء أمثالهم إطلاقًا؟ من هؤلاء الذين يستطيعون بعد مضي
هذه السنين الطويلة ثلاثمائة سنة وزيادة، يمضون لا يحتفلون هذا الاحتفال أو
ذاك؛ وإنما احتفالهم من النوع الذي سأشير إليه إشارة سريعة كما فعلت
آنفًا؟
فهذا
يكفي المسلم أن يعرف أن القضية ليست قضية عاطفة جانحة لا تعرف الحدود
المشروعة؛ وإنما هو الاتباع والاستسلام لحكم الله -عزَّ وجلَّ-؛ ومن ذلك: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[7].
فرسول الله ما احتفل؛ إذن نحن لا نحتفل. إن قالوا: ما احتفل لشخصه؛ نقول: ما احتفل أصحابه -أيضًا- بشخصه من بعده فأين تذهبون؟
كلُّ الطرق مسدودة أمام الحجَّة البِّينة الواضحة التي لا تفسح مجالاً مطلقًا للقول بِحُسنِ هذه البدعة.
وإنَّ
مما يُبشِّرُ بالخير: أنَّ بعض الخطباء والوعَّاظ بدأوا يضَّطرون ليعترفوا
بهذه الحقيقة؛ وهي أنَّ الاحتفال هذا بالمولد بدعة وليس من السُّنة؛ ولكن
يعوزهم ويحتاجون إلى شئ من الشَّجاعة العلميِّة التي تتطلب الوقوف أمام
عواطف النَّاس الذين عاشوا هذه القرون الطَّويلة وهم يحتفلون؛ فهؤلاء كأنهم
يجبنون أو يضعفون أنْ يصدعوا بالحق الذي اقتنعوا به.
ولذلك
تجد أحدهم يرواغ، ولا أريد أن أقول: يُسدِّد ويُقارب؛ فيقول: صحيح أنَّ
هذا الاحتفال ليس مِن السنة، ما احتفل الرَّسول ولا الصَّحابة ولا السَّلف
الصَّالح؛ ولكن النَّاس اعتادوا أن يحتفلوا، ويبدو أن الخلاف شكلي! هكذا
يُبرِّر القضية ويقول: الخلاف شكلي!
لكن
الحقيقة أنَّهم انتبهوا أخيرًا إلى أنَّ هذا المولد خرج عن موضوع الاحتفال
بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان؛ حيث يتطرق الخطباء
أمورًا ليس لها علاقة بالاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أريد
أن لا أطيل في هذا؛ ولكني أذكر بأمرٍ هامٍ جدًّا، طالما غفل عنه جماهير
المسلمين حتى بعض إخواننا الذين يمشون معنا على الصَّراط المستقيم، وعلى
الابتعاد من التَّعبُّد إلى الله -عزَّ وجلَّ- بأي بدعة، قد يخفى عليهم
أنَّ أيَّ بدعة يتعبد المسلم بها ربَّه -عزَّ وجلَّ- هي ليست من صغائر
الأمور.
ومن
هنا نعتقد أن تقسيم البدعة إلى محرَّمة وإلى مكروهة؛ يعني كراهه تنزيهيه
هذا التقسيم لا أصل له في الشَّريعة الإسلاميَّة، كيف وهو مصادم مصادمة
جليَّة للحديث الذي تسمعونه دائمًا وأبدًا: ((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٍ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ)).
فليس
هناك بدعة لا يستحق صاحبها النَّار ولو صحَّ ذلك التَّقسيم؛ لكان الجواب
ليس كل بدعة يستحق صاحبها دخول النار، لما؟ لأن ذاك التَّقسيم يجعل بدعة
محرمة؛ فهي التي تؤهل صاحبها النار، وبدعة مكروهة تنزيهًا لا تؤهل صاحبها
للنار؛ وإنما الأولى تركها والإعراض عنها.
والسِّر
-وهنا الشاهد من إشارتي السابقة التي لا يتنبَّهُ لها الكثير- والسر في أن
كل بدعة -كما قال عليه الصلاة والسلام بحق- ضلالة؛ هو أنَّه من باب
التَّشريع، من باب التَّشريع في الشَّرع الذي ليس له حق التَّشريع إلا ربّ
العالمين -تبارك وتعالى-.
فإذا
انتبهتم لهذه النقطة؛ عرفتم حينذاك لماذا أطلق عليه الصَّلاة والسَّلام
على كل بدعة أنها في النَّار؛ أي صاحبها؛ ذلك لأنَّ المبتدع حينما يُشرِّع
شيئًا من نفسه فكأنَّه جعل نفسه شريكًا مع ربِّه -تبارك وتعالى-.
والله -عزَّ وجلَّ- يأمرنا أن نوحِّده في عبادته وفي تشريعه؛ فيقول -مثلاً- في كتابه: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[8]. أندادًا في كل شئ؛ من ذلك في التَّشريع.
ومن
هنا يظهر لكم معشر الشباب المسلم، الواعي المثقف، الذي انفتح له الطَّريق
إلى التَّعرف على الإسلام الصَّحيح، من المفتاح لا إله إلا الله، وهذا
التوحيد الذي يستلزم؛ كما بين ذلك بعض العلماء قديمًا، وشرَحوا ذلك شرحًا
بيِّنًا؛ ثم تبعهم بعض الكتاب المعاصرين أن هذا التوحيد يستلزم إفراد الله
-عزَّ وجلَّ- بالتشريع، يستلزم ألا يشرع أحد مع الله -عزَّ وجلَّ- أمرًا ما
سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، جليلاً أم حقيرًا؛ لأن القضية ليست بالنَّظر
إلى الحكم هو صغير أم كبير؛ وإنما إلى الدَّافع إلى هذا التَّشريع؛ فإن كان
هذا التَّشريع صدر من الله؛ تقرَّبنا به إلى الله، وإن كان صدر من غير
الله -عزَّ وجلَّ-؛ نبذناه وشِرعَتَهُ نبذ النواة، ولم يجز للمسلم أن
يتقرَّب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بشيء من ذلك. وأولى وأولى ألا يجوز للذي شرع
ذلك أن يُشرِّعه، وأن يستمر على ذلك وأن يستحسنه.
هذا
النَّوع من إفراد الله -عزَّ وجلَّ- بالتَّشريع هو الذي اصطلح عليه
-اليوم- بعض الكتَّاب الإسلاميين بتسميته بأنَّ الحاكمية لله -عزَّ وجلَّ-
وحده.
لكن
-مع الأسف الشديد- أخذ شبابنا هذه الكلمة كلمة ليست مُبيَّنةً مُفصَّلة لا
تشتمل كلَّ شِرعة، أو كلَّ أمرٍ أُدخِلَ في الإسلام وليس من الإسلام في
شئ؛ أنَّ هذا الذي أدخل قد شارك الله -عزَّ وجلَّ- في هذه الخصوصية، ولم
يُوحِّد الله -عزَّ وجلَّ- في تشريعه.
ذلك
لأنَّ السبب -فيما أعتقد- في عدم وضوح هذا المعنى الواسع لجملة أنَّ
الحاكمية لله -عزَّ وجلَّ- هو أن الذين كتبوا حول هذا الموضوع -أقولها مع
الأسف الشديد- ما كتبوا ذلك إلا وهم قد نُبِّهوا بالضغوط الكافرة التي ترد
علينا بهذه التشريعات وهذه القوانين من بلاد الكفر وبلاد الضلال؛ ولذلك
فهُم حينما دعوا المسلمين وحاضروا وكتبوا دائمًا وأبدًا حول هذه الكلمة
الحقة وهي أن الحاكمية لله -عزَّ وجلَّ- وحده؛ كان كلامهم دائمًا ينصبُّ
ويدور حول رفض هذه القوانين الأجنبية التي ترد إلينا من بلاد الكفر -كما
قلنا-؛ لأن ذلك إدخال في الشَّرع ما لم يشْرَعه الله -عزَّ وجلَّ-، هذا
كلام حقّ -لاشك ولا ريب-.
ولكن
قصدي أن أُلفِت نظركم أن هذه القاعدة الهامة؛ وهي: (أن الحاكمية لله -عزَّ
وجلَّ-) لا تنحصر فقط برفض هذه القوانين التي ترد إلينا من بلاد الكفر؛ بل
تشمل هذه الجملة -هذه الكلمة الحقّ- كلّ شئ دخل في الإسلام، سواء كان
وافدًا إلينا، أو نابعًا منا مادام أنَّه ليس من الإسلام في شئ.
هذه
النقطة بالذَّات هي التي يجب أن نتنبَّه لها، وأن لا نتحمَّس فقط لجانب هو
هذه القوانين الأجنبية فقط، وكفرها واضح جدًا. نتنبه لهذا فقط؛ بينما دخل
الكفر في المسلمين منذ قرون طويلة وعديدة جدًا، والناس في غفلة من هذه
الحقيقة؛ فضلاً عن هذه المسائل التي يعتبرونها طفيفة؛ لذلك فهذا الاحتفال
يكفي أن تعرفوا أنه مُحدَث ليس من الإسلام في شئ.
ولكن يجب أن تتذكروا مع ذلك أن الإصرار على استحسان هذه البدعة مع إجمال
جميل -كما ذكرت آنفًا- أنها مُحدَثة فالإصرار على ذلك؛ أخشى ما أخشاه أن
يدخل المصر على ذلك في جملة ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[9].
وأنتم
تعلمون أن هذه الآية لما نزلت وتلاها النَّبي صلى الله عليه وسلم كان في
المجلس عدي بن حاتم الطائي، وكان من العرب القليلين الذين قرأوا وكتبوا؛
وبالتالي تنصَّروا؛ فكان نصرانيا؛ فلما نزلت هذه الآية لم يتبين له المقصد
منها؛ فقال: يا رسول الله! كيف -يعني- ربنا يقول عنَّا نحن النصارى سابقًا ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[10]؟
ما اتخذناهم أحبارنا أربابًا من دون الله -عزَّ وجلَّ- كأنَّه فهِمَ أنهم
اعتقدوا بأحبارهم ورهبانهم أنهم يخلقون مع الله، يرزقون مع الله، وإلى غير
ذلك من الصفات التي تفرَّد الله بها -عزَّ وجلَّ- دون سائر الخلق؛ فبيَّن
له الرسول عليه السلام بأنَّ هذا المعنى الذي خطر في بالك ليس هو المقصود
بهذه الآية؛ وإن كان هو معنى حقٌّ؛ يعني لا يجوز للمسلم أن يعتقد بأنَّ
إنسانًا ما يخلق ويرزق؛ لكن المعنى هنا أدق من ذلك؛ فقال له: ((أَلَسْتُمْ كُنْتُمْ إِذَا حَرَّمُوا لَكُمْ حَلاَلاً حَرَّمْتُمُوهُ؟ وَإِذَا حَلَّلُوا لَكُمْ حَرَامًا حَلَّلْتُمُوهُ؟)) قال: أما هذا فقد كان؛ فقال عليه السلام: ((فَذَاكَ اتِّخَاذُكُمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)).
لذلك
فالأمر خطير جدًّا استحسان بدعة المستحسن وهو يعلم أنه لم يكن من عمل
السلف الصالح ولو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ قد حشر نفسه في زمرة الأحبار
والرهبان الذين اتُّخِذُوا أربابًا من دون الله -عز َّوجلَّ-، والذين أيضًا
يقلِّدُونهم؛ فهم الذين نزل في صددهم هذه الآية أو في أمثالهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[11].
غرضي
من هذا أنه لا يجوز للمسلم كما نسمع دائمًا، وكما سمعنا قريبًا: "معليش!
الخلاف شكلي"! الخلاف جذريٌّ وعميقٌ جدًّا؛ لأننا نحن ننظر إلى أنَّ هذه
البدعة وغيرها داخلة أولاً: في عموم الحديث السَّابق: ((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ)).
وثانيًا: ننظر إلى أنَّ موضوع البدعة مربوطٌ بالتَّشريع الذي لم يأذن به الله -عزَّ وجلَّ-؛ كما قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾[12].
وهذا يُقال كله إذا وقف الأمر فقط عند ما يُسمَّى بالاحتفال بولادته عليه السَّلام؛ بمعنى قراءة قصَّة المولد.
أمَّا
إذا انضمَّ إلى هذه القراءة أشياء -وأشياء كثيرة جدًا-؛ منها: أنهم يقرءون
من قصَّتِه عليه الصلاة والسلام -قصة المولِد- أولاً: مالا يَصحُّ
نسبَتُهُ إلى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
وثانيًا:
يذكرون من صفاتِهِ عليه السَّلام فيما يتعلق بولادتِهِ ما يشترك معه
عامَّة البشر؛ بينما لو كان هناك، يجب الاحتفال أو يجوز على الأقل بالرسول
صلى الله عليه وسلم؛ كان الواجب أن تُذكَر مناقبه عليه الصَّلاة والسَّلام
وأخلاقه وجهاده في سبيل الله، وقلبه لجزيرة العرب من الإشراك بالله -عزَّ
وجلَّ- إلى التوحيد، من الأخلاق الجاهلية الطالحة الفاسدة إلى الأخلاق
الإسلامية، كان هذا هو الواجب أن يفعلوه؛ لكنهم جروا على نمط من قراءة
الموالد -لا سيَّما إلى عهدٍ قريب- عبارة عن أناشيد، وعبارة عن كلمات
مسجَّعة، ويُقال في ذلك من جملة ما يُقال -مثلاً، مما بقى في ذاكرتي والعهد
قديم-: "حملت به أمه تسعة أشهر قمرية".
ما الفائدة من ذكر هذا الخبر، وكل إنسان منَّا تحمل به أمه تسعة أشهر قمرية؟!
فالقصد
هل أفضل البشر، وسيد البشر عليه الصلاة والسلام يُذكر منه هذه الخصلة التي
يشترك فيها حتى الكافر؟! إذن خرج القصد من المولد خرج عن هدفه بمثل هذا
الكلام الساقط الواهي.
بعضهم -مثلاً- يذكرون بأنَّه ولِدَ مختونًا مسرورا وهذا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فهكذا يُمدَح الرسول عليه السلام؟!
يعني
نقول: أنَّ الاحتفال في أصله لو كان ليس فيه مخالفة سوى أنَّه مُحدَث؛
لكفى وجوبًا الابتعاد عنه للأمرين السابقين؛ لأنه مُحدَث، ولأنَّه تشريعٌ،
والله -عزَّ رجلَّ- لا يرضى من إنسان أن يُشرِّع للخلق ما يشاء، فكيف وقد
انضمَّ إلى المولد على مرِّ السنين أشياء وأشياء مما ذكرنا، ومما يطول
الحديث فيما لو استعرضنا الكلام على ذلك؟!
فحسب
المسلم إذن التذكير هنا والنَّصيحة: أن يعلم أنَّ أي شئ لم يكن في عهد
الرسول عليه السلام، وفي عهد السَّلف الصَّالح، فمهما زخرفه النَّاس، ومهما
زيَّنوه، ومهما قالوا: "هذا في حبِّ الرَّسول" -وأكثرهم كاذبون؛ فلا يحبون
الرسول إلا باللفظ، وإلا بالغناء والتطريب، ونحو ذلك-. مهما زخرفوا هذه
البدع فعلينا نحن أن نظلَّ متمسكين بما كان عليه سلفنا الصَّالح -رضي الله
عنهم أجمعين-.
وتذكروا
معنا بأنَّ من طبيعة الإنسان المغالاة في تقدير الشَّخص الذي يُحبُّه،
لاسيما إذا كان هذا الشخص لا مثل له في الدنيا كلها؛ ألا وهو: رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فمن طبيعة الناس الغلو في تعظيم هذا الإنسان؛ إلا
النَّاس الذين يأتمرون بأوامر الله -عزَّ وجلَّ- ولا يعتدون فهم يتذكرون
دائمًا وأبدًا مثل قوله تبارك وتعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾[13] ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾[14].
فإذا
كان الله -عزَّ وجلَّ- قد اتخذ محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نبيًّا
فهو قبل ذلك جعله بشرًا سويًّا، لم يجعله ملكًا خُلِقَ مِن نُورٍ -مثلاً
-كما يزعمون-؛ وإنما هو بشرٌ، وهو نفسه تأكيدًا لنص القرآن الكريم ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾[15] إلى آخر الآية، هو نفسه أكَّد ذلك في غير ما مناسبة؛ فقال: ((إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَىَ كَمَا تَنْسَوْنَ؛ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي)).
وقال لهم مرة: ((لاَ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي التِي أَنْزَلَنِي
اللهُ فِيهَا؛ وَإِنَّمَا ضَعُونِي حَيْثُ وَضَعَنِي رَبِّي -عَزَّ
وَجَلَّ- عَبْدًا رَسُولاً))؛ لذلك جاء في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم،
عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((لاَ تُطْرُونِي كَمَا
أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ؛ إِنَّمَا أنَا عَبْدٌ؛
فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)). هذا الحديث تفسير للحديث السابق:
((لاَ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي التِي أَنْزَلَنِي اللهُ بِهَا))؛ فهو يقول: لا تمدحوني كما فعلت النصارى في عيسى بن مريم؛ كأن قائلاً يقول: كيف نقول يا رسول الله! كيف نمدحك؟ قال: ((إِنَّمَا أنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).
ونحن
حينما نقول في رسولنا صلى الله عليه وسلم: عبد الله ورسوله؛ فقد رفعناه
ووضعناه في المرتبة التي وضعه الله -عزَّ وجلَّ- فيها لم ننزل به عنها، ولم
نصعد به فوقها هذا الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم
منَّا.
ثمَّ
نجد النبي صلوات الله وسلامه عليه يُطبِّق هذه القواعد ويجعلها حياة يمشي
عليها أصحابه صلوات الله وسلامه معه. فقد ذكرت لكم -غير ما مرة- قصة معاوية
بن جبل -رضي الله عنه- حينما جاء إلى الشام وهي يومئذ من بلاد الروم -بلاد
النصارى- يعبدون القسيسين والرهبان بقي في الشَّام ما بقي لتجارة فيما
يبدو، ولما عاد إلى المدينة فكان لما وقع بصره على النبي صلى الله عليه
وسلم هم ليسجد، لمن؟ لسيد النَّاس فقال له عليه الصلاة والسلام: ((مه يا معاذ!))
شو هذا؟ قال: يا رسول الله! إني أتيت الشام، فرأيت النصارى يسجدون
لقسيسيهم وعظمائهم؛ فرأيتك أنت أحق بالسجود منهم؛ فقال عليه الصلاة
والسلام: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا)).
وهذا
الحديث جاء في مناسبات كثيرة لا أريد أن أستطرد إليها وحسبنا هنا أن
نُلفِت النظر إلى ما أراد معاذ بن جبل أن يفعل من السجود للنبي صلى الله
عليه وسلم ما الذي دفعه على هذا السجود؟ هل هو بغضه للرسول عليه السلام؟
بطبيعة الحال لا؛ إنما هو العكس تمامًا، هو حبه للنبي صلى الله عليه وسلم
الذي أنقذه من النار، لولاه -هنا يقال الواسطة لا تُنكر- لولا الرسول عليه
السلام أرسله الله إلى الناس هداية لجميع العالم؛ لكان الناس اليوم يعيشون
في الجاهلية السابقة، وأضعاف مضاعفة عليها.
فلذلك
ليس غريبًا أبدًا –لاسيما، والتَّشريع بعدُ لم يكن قد كمُلَ وتمَّ- ليس
غريبًا أبدًا أنْ يهمَّ معاذ بن جبل بالسجود للنَّبي صلَّى الله عليه
وسلَّم؛ كإظهار لتبجيله واحترامه وتعظيمه؛ لكنَّ النَّبي صلَّى الله عليه
وسلَّم الذي كان قرَّر في عقولهم وطبَعَهم على ذلك يريد أن يثبت عمليًا
بأنَّه بشرٌ، وأنَّ هذا السجود لا يصلحُ إلا لربِّ البشر، ويقول: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا))، في بعض روايات الحديث: ((وَلَكِنْ لاَ يَصْلُحُ السُّجُودُ إلاَّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).
إذن
نحن لو استسلمنا لعواطفنا؛ لسجدنا لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم سواء
كان حيًّا أو ميِّتًا، لماذا؟ تعظيمًا له؛ لأنَّ القصد تعظيمه، وليس القصد
عبادته عليه السلام؛ ولكن إذا كنَّا صادقين في حبِّه عليه الصَّلاة
والسَّلام، فيجب أن نأتمر بأمره، وأن ننتهي بنهيه، وألا نضرب بالأمر والنهي
عرض الحائط؛ بزعم أنَّه نحن نفعل ذلك حبًّا لرسول الله صلَّى الله عليه
وسلَّم؛ كيف هذا؟!
هذا أولاً: عكسٌ للنَّصِّ القرآنيِّ، ثمَّ عكسٌ للمنطِقِ العقليِّ السَّليم؛ ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[16].
فإذن
اتباع الرَّسول عليه السلام هو الدليل الحقّ الصَّادق الذي لا دليل سواه
على أن هذا المتَّبِع للرسول عليه السلام هو المحبُّ لله ولرسوله صلى الله
عليه وسلم.
ومن هنا قال الشاعر قوله المشهور:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطـيع
هناك
مثال دون هذا؛ ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه عليه
ذلك أن النَّاس في الجاهلية كانوا يعيشون على عادات جاهليَّة، وزيادة أخرى
عادات فارسيَّة أعجميَّة؛ ومن ذلك: أنَّه يقوم بعضهم لبعض، كما نحن نفعل
اليوم تمامًا؛ لأننا لا نتبع الرسول عليه السلام، ولا نصدُق أنفسنا
بأعمالنا أنَّنا نحبُّه عليه الصلاة والسلام؛ وإنَّما بأقوالنا فقط.
ذلك أنَّ النَّاس كان يقوم بعضهم لبعض. أمَّا الرَّسول صلى الله عليه وعلى
آله وسلَّم فقد كان أصحابه معه كما لو كان فردًا منهم، لا أحد يُظهِر له
من ذلك التبجيل الوثني الفارسي الأعجمي شيئًا إطلاقًا.
وهذا
نفهمه صراحة من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما كان شخص أحب
إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم و كانوا لا يقومون له لما يعلمون من
كراهيته لذلك". انظروا هذا الصحابي الجليل الذي تفضَّل الله عليه فأولاه
خدمة نبيِّه عشرة سنين. أنس بن مالك كيف يجمع في هذا الحديث بين الحقيقة
الواقعة بينه عليه السلام وبين أصحابه من حبهم إياه، وبين هذا الذي يدندن
حوله أنَّ هذا الحب يجب أن يُقيَّد بالإتباع وأن لا ينصاع، وأن لا يخضع
صاحبه من هوى، وحبك الشيء يعمي ويصم.
فهو
يقول حقًّا: "ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم". هذه
حقيقة لا جدال فيها؛ لكنه يعطف على ذلك؛ فيقول: "وكانوا لا يقومون له؛ لما
يعلمون من كراهيته لذلك". إذن لماذا كان أصحاب الرسول عليه السلام لا
يقومون له؟ إتباعًا له، تحقيقًا للآية السابقة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾[17].
فاتباع الرسول هو دليل حب الله حبا صحيحاً ما استسلموا لعواطفهم كما وقع من الخلف الطالح.
نحن
نقرأ في بعض الرسائل التي أُلِّفت حول هذا المولد الذي نحن في صدد بيان
أنَّه مُحدَث. جرت مناقشات كثيرة -مع الأسف- والأمر كالصبح أبلج واضح
جدًّا؛ فناسٌ ألَّفوا في بيان ما نحن في صدده؛ أنَّ هذا ليس من عمل السَّلف
الصَّالح، وليس عبادة وليس طاعة.
وناس
تحمَّسوا واستسلموا لعواطفهم وأخذوا يتكلمون كلامًا لا يقوله إلا إنسان
ممكن أن يُقال في مثله: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- إذا أخذ ما وهب أسقط ما
أوجب.
لماذا؟
لأن في المولد حتى الطريقة القديمة ما أدري الآن لعلهم نسخوها أو عدلوها
كانوا يجلسون على الأرض؛ فكانوا إذا جاء القارئ لقصَّة ولادة الرسول عليه
السلام، ووضْعِ أمه إياه قاموا جميعًا قيامًا، وكانوا يبطشون بالإنسان إذا
لم يتحرك وظل جالسًا؛ فجرت مناقشات حول هذا الموضوع؛ فألَّف بعضهم رسالة؛
فقال هذا الإنسان الأحمق؛ قال: "لو استطعت أن أقوم لولادة الرسول عليه
السلام على رأسي لفعلت".
هذا يدري ما يقول؟! الحق ما قال الشاعر:
فإن
كنت لا تدري فتلك مصيبة .. وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم، تُرى إذا عملنا
مقابلة بين هذا الإنسان الأحمق، وبين صحابة الرسول الكرام، حسبنا واحد
منهم، مش الصحابة؛ حتى ما نظلمهم. تُرَى من الذي يحترم ويوقِّر الرسول عليه
السلام أكثر: أذاك الصحابي الذي إذا دخل الرسول عليه السلام لا يقوم له،
أم هذا الخلف الأحمق؛ يقول: لو تمكنت لقمت على رأسي؟
هذا
كلام إنسان مثل ما قلنا -آنفًا- يعني-: هايم ما يدري ما يخرج من فمه! وإلا
إذا كان يتذكَّر سيرة الرسول عليه السلام، وأخلاقه، وتواضعه، وأمره
للنَّاس بأنَّه ما يرفعوه إلى آخر ما ذكرنا -آنفًا-، لما تجرَّأ أن يقول
هذه الكلمة -لاسيَّما- وهو يقول ذلك بعد وفاته عليه السلام؛ حيث الشَّيطان
يتخذ طريقًا واسعًا جدًّا لإضلال الناس، و(إشكال) الناس لنبِّيهم بعد وفاته
أكثر منه في حياته عليه السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حيٌّ
يرى فينصح ويذكر ويعلم -وهو سيد المعلمين- فلا يستطيع الشيطان أن يتقرَّب
إلى أحد بمثل هذا التعظيم الذي هو من باب الشرك. أما بعد وفاته عليه السلام
فهنا ممكن أن الشيطان يتوغل إلى قلوب النَّاس، وإخراجهم عن الطريق الذي
تركهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فإذا
كان النَّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حياته ما يقوم له أحد، وهو
أحقُّ النَّاس بالقيام، لو كان سائغًا. فنحن نعلم من هذا الحديث -حديث أنس-
أنَّ الصَّحابة كانوا يحبون الرَّسول عليه السَّلام حبًّا حقيقيًّا وأنهم
لو تُركِوُا لأنفسهم؛ لقاموا له دائمًا وأبدًا؛ ولكنهم هم المجاهدون حقًّا
تركوا أهواءهم إتباعًا للرسول عليه السلام، ورجاء مغفرة الله -عزَّ وجلَّ-،
ليحظوا بحب الله -عزَّ وجلَّ- لهم فيغفر الله لهم.
هكذا
يكون الإسلام؛ فالإسلام هو الاستسلام. هذه الحقيقة هي التي يجب دائمًا
نستحضرها، وأن نبتعد دائمًا وأبدًا عن العواطف التي تُفتِن النَّاس كثيرًا
-وكثيرًا جدًّا-؛ فتخرجهم عن سواء السبيل.
لم
يبق الآن من تعظيم الرسول عليه السلام في المجتمعات الإسلاميِّة إلا قضايا
شكليَّة؛ أما التعظيم الحقّ -كما ذكرنا- وهو إتباعه؛ فهذا أصبح محصورًا،
أصبح محدودًا في أشخاص قليلين جدًّا.
وماذا
يقول الإنسان في الاحتفالات -اليوم- رفع الصوت وتطريب وغناء، لو رفع صوته
هذا المغني واضطرب وحرك رأسه وذقنه ونحو ذلك أمام الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لكان ذلك لا أقول: هو الكفر؛ وإنما هو إهانة للرسول عليه السلام،
وليس تعظيمًا له وليس حبًّا له؛ لأنه حينما ترونه يرفع صوته ويمد ويطلع
وينزل في أساليب موسيقية ما أعرفها، وهو يقول يفعل ذلك حبًّا في رسول الله
أنَّه كذَّاب ليس هذا هو الحب، الحب في اتباعه.
ولذلك
الآن تجد الناس فريقين: فريقٌ يقنعون لإثبات أنهم محبون للرَّسول عليه
السلام على النَّص، على الصمت؛ وهو العمل في أنفسهم، في أزواجهم، في
ذرياتهم.
وناس
آخرون يدعون هذا المجال فارغًا في بيوتهم، في أزواجهم، في بناتهم، في
أولادهم، لا يعلِّمونهم السُّنة، ولا يربُّونهم عليها، كيف وفاقدُ الشيء لا
يعطيه؛ وإنما لم يبق عندهم إلا هذه المظاهر إلا الاحتفال بولادة الرسول
عليه السلام.
ثم
جاء الضغث على إبالة -كما يُقال-؛ فصار عندنا أعياد واحتفالات كثيرة؛ كما
جاء الاحتفال بسيد البشر تقليدًا للنصارى؛ كذلك جرينا نحن؛ حتى في احتفالنا
بمواليد أولادنا -أيضًا- على طريقة النصارى.
وإن
تعجب فعجبٌ من بعض هؤلاء المنحرفين عن الجادة؛ يقولون: النصارى يحتفلوا
بعيساهم بنبيهم، نحن ما نحتفل بميلاد نبينا عليه الصلاة والسلام؟!
أقول:
هذا يذكِّرُنا بما هو أقل من ذلك، وقد أنكره الرسول عليه الصلاة والسلام؛
حينما كان في طريق في سفر فمرُّوا بشجرةٍ ضخمة للمشركين؛ كانوا يعلِّقون
عليها أسلحتهم؛ فقالوا كلمة بريئة جدًّا؛ ولكنها في مشابهة لفظيَّة قالوا:
"يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ
أَنْوَاطٍ؛ قال عليه السلام: ((اللَّهُ أَكْبَرُ!
هَذِهِ السُّنَنُ، لَقَدْ قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى:
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً)).
قد
يستغرب الإنسان كيف الرسول عليه السلام يقتبس من هذه الآية حجة على هؤلاء
الذين ما قالوا: أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ وإنما قالوا: اجعل لنا شجرة
نعلِّق عليها أسلحتنا، كما لهم شجرة؛ فقال: ((اللَّهُ أَكْبَرُ! هَذِهِ السُّنَنُ))؛ يعني بدأتم تسلكون سنن من قبلكم كما في الأحاديث الصحيحة، ((قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)).
فكيف
بمن يقول اليوم صراحة؟ النَّصارى يحتفلوا بعيساهم نحن ما نحتفل بنبينا
عليه السلام؟! الله أكبر! هذه السَنَن، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛
حين قال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا
جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ؛ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! اليَهُودُ
وَالنَّصَارَى هُمْ؟ قَالَ: فَمَنْ)). ...
أخيرًا أقول:
إنَّ
الشيطان قاعدٌ للإنسان بالمرصاد فهو دائمًا وأبدًا يجتهد لصرف المسلمين عن
دينهم ولا يصرفهم معلنًا العِدَاء لهم في دينهم؛ وإنما يأتيهم بسَنَنٍ
يُزخرِفها لهم؛ فيحملهم عليها؛ فيقنع الناس بها، وينصرفون بذلك عن اتباع
السلف الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا فيه تنبيهٌ على أنَّ ما جاء عن السلف حقٌّ وصدقٌّ: "ما أُحدِثَتْ بدعة إلا وأُمِيتَت سُـنَّة". هذا نحن نلمسه لمس اليد! كيف هذا؟
قلت
لكم في كلمتي -في أول كلمتي- إنّه في عندنا نحن احتفال مشروع بميلاد
الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلت: ما أريد أن أدندن حول ذلك.
فالآن أقول:
من
السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة، والمتَّفق عليها بين العلماء: صيام كل
يوم اثنين من كل أسبوع، وهذا معروف، فبعض الناس المتعبدين حتى اليوم
يحافطون على هذه السنة.
أما
الجمهور فهو -إن شاء الله- يُحافظ على فرض رمضان، صيام رمضان فقط، أمَّا
الجمهور فهو معرضٌ عن هذه السنة؛ لكن نعود إلى أولئك الناس القليلين الذين
يصومون يوم الاثنين لو سألتهم: لماذا تصوم أنت يوم الاثنين؟
بيقولك:
سنة مستحبة، فضيلة، إلى آخره، كلام سليم؛ لكن ليس كلامًا يدلُّ على وعيٍّ
وعلمٍ ينبغي أن يكون عليه المسلم، لا سيما وهو يحتفل مع جماهير الناس هذا
الاحتفال غير المشروع؛ احتفال بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام. هذا الذي
أردت (أن أذكره).
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله!
سأله عدة أسئلة منها:
"ما تقول في صوم يوم الاثنين؟
قال: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِّدُتُ فِيهِ، وِأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ))، ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِّدُتُ فِيهِ، وِأُنْزِلَ عَلَيَّ الْوَحْيَ فِيهِ)) يوم الاثنين.
ايش معنى هذا الجواب؟
هو سأل ماذا تقول في صوم يوم الاثنين؛ يعني: مستحب، مشروع، فيه خير ؟
فأجابه
بهذا الجواب، وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم؛ كأنه يقول: إن صوم يوم
الأثنين صومٌ مشروعٌ من باب شُكرِ الله -عزَّ وجلَّ- على أن وُلِدت في هذا
اليوم، وبُعِثْتُ في هذا اليوم، لازم تصوموا يوم الاثنين؛ لأني وُلِدتُ فيه
وبُعِثْتُ فِيهِ. فهل يصوم المسلمون اليوم اللي بيحتفلوا هذه الاحتفالات
البرَّاقة الفتَّانة هل يصومون يوم الاثنين؟
قلنا:
قليل جدًا الذي يصوم، وهذا القليل لا يعرف الحكمة من هذا الصيام؛ وهو
الاحتفال المشروع بولادة الرسول عليه السلام، وببعثته عليه الصلاة والسلام.
انظروا كيف أن الشيطان يصرف النَّاس بما يُحدِثُهُ لهم من سَنَن وطرق
مبتدعة عما سنَّه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
أسأل
الله -عزَّ وجلَّ- أن يُفقِّهنا في سنة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم،
وأن يُوفِّقنا للعمل بها حتى نعود مسلمين حقًّا، وحتى ينصرنا الله -عزَّ
وجلَّ- نصرًا عزيزًا، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلَّى الله
على محمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّي، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
[/siz