المـقـابـلة
تعد المقابلة من المحسنات البديعية المعنوية التي ترجع إلى تحسين المعنى . وقد جعلها بعض علماء البلاغة مستقلة بذاتها ، بعدما كانت عند بعضهم مختلطة مع الطباق . وكان قدامة ابن جعفر أول من تكلم عنها ، وعدها فن مستقل بذاته ، وذكرها في معرض حديثه عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة العمل الأدبي ، وخاصة الشعر .
وعرفها السكاكي ، فقال : المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر ، وتقابل بالأضداد ، ثم إذا شرط هنا شرطت هناك ضده ".
وعرفها الخطيب القزويني ، فقال : " هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ،أو أكثر ،ثم بما يقابل ذلك على الترتيب "
ويعرفها بدر الدين الزركشى يقول : " هو ذكر الشيء مع ما يوازنه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها " .
وخلاصة القول من التعريفات السابقة لها أن المقابلة : هي أن يأتي المتكلم في كلامه بمعنيين متوافقين أو أكثر ليس بينهما تضاد ، ثم يأتي بما يقابل ذلك على الترتيب . على شاكلة قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا ، وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون )) . فقد أتى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بمعنيين " يضحكوا " و "قليلا " وهما معنيان متوافقان أي ليس بينهما تضاد ، ثم أتى بعد ذلك بما يقابلهما على الترتيب بقوله " وليبكوا " و " كثيرا " .
- من ذلك أيضا قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) ، فقد قابل بأربعة معان، بأربعة أخرى ، الأربعة الأولى هي : " أعطى " " ,اتقى" , "صدق " و "اليسرى " .
والأربعة الثانية هي: " بخل " و "استغنى " و" كذب " و "العسرى " .
أنواع المقابلة
تأتي المقابلة على أربعة أنواع هي :
1-مقابلة اثنين باثنين : ومن ذلك في الأسلوب القرآني
قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ))
وقوله تعالى (( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ))
وقوله تعالى : (( تخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي ))
وقوله تعالى (( وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا ))
وقوله (( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ))
فقد جاء في صدر هذه الآيات السابقة بضدين ، ثم قابل الضدين بضدين لهما في عجزها ، على الترتيب . فجاءت خذه المقابلات في غاية البلاغة . وقد ورد هذا النوع من المقابلة كثيرا في القرآن الكريم ونكتفي بهذا القدر منه ، حتى لا يطول بنا حبل الكلام .
*ومنه أيضا قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلّم : (( ما كان الرفق في شيء إلّا زانه ، ولا كان الحزق ( الحمق والتسرع ) في شيء إلّا شانه )) . فانظر كيف قابل نبيّنا الكريم بين الرفق بالحزق ، والزين بالشين ، بأحسن ترتيب ، وأتم مناسبة .
*وقوله أيضا لأم المؤمنين : (( عليك بالرفق يا عائشة ، فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )) .
*وقوله أيضا ( إنّ لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير ، مغاليق الشر )) .
*وقوله أيضا للأنصار : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) أي يكثرون عند الملمات والحرب ، ويقلون عند المغانم ، ويعفون عنها .
2-مقابلة ثلاثة بثلاثة : ومن أمثلة ذلك في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى :
(( ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث )) .
- فالمقابلة بين " يحل ، و"يحرم " ، و " الطيبات والخبائث " .
*ومنه أيضا قول الرسول (صلى الله عليه وسلّم ) ، من خطبـة له : (( ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتجلت مقبلة ) . إن أطراف المقابلة هي : الدنيا وارتحالها مدبرة ، يقابلها الآخرة ومجيئها مرتجلة مقبلة .
*وقول نبيّنا الكريم : (( المؤمن غرّ كريم ، والفاجر خبٌّ لئيم )) .
*وقال علي (رضي الله عنه ) لعثمان بن عفان (رضي الله عنه ) : (( إنّ الحق ثقيل وبيء ، والباطل خفيف مريء (يسهل بلعه )) .
*ومنه في القريض ، قول أبي دلامة ، وهو أشعر بيت في المقابلة :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا . وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
- فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح " ، , وبين " الدين والكفر " وبين " الدنيا والإفلاس ". قال ابن أبي الإصبع : إنه لم يقل قبله مثله ..
3-مقابلة أربعة بأربعة :ومثاله في الأسلوب القرآني قوله تعالى (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره لليسرى )).
فالمقابلة بين قوله تعالى " استغنى " و قوله " اتقى " لأن المعنى زهد فيما عنده ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى.
*ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) في وصيته عند الموت : هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها )) . فقابل أول بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها . فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام ))
*ومثله في القريض ، قول أبي تمام :
يا أمة كان قبح الجود يسخطها دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
4- مقابلة خمسة بخمسة : قال علماء البلاغة كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، فمن مقابلة خمسة بخمسة ،وقد وقع ذلك في الشعر كثيرا ، ومن أمثلته قول أبي الطيب المتنبي : . أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قال صاحب الإيضاح : ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح ، والمقابلة الخامسة بين " بي " و "لي " ، فيها نظر لأن الباء ، واللام ، صلتا الفعلين .
الفرق بين المطابقة والمقابلة
يكمن الفرق بين المطابقة والمقابلة في وجهين :
الأول – أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا ( أي بين اللفظ وضده ) ، والمقابلة تكون لأكثر من ذلك ، كأن تكون مثلا بين أربعة أضداد : ضدين في صدر الكلام ، وضدين في عجزه . وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر ، وخمسة في العجز .
وقال علماء البديع : كلما كثر عددها كانت أبلغ ، فمنها مقابلة خمسة ألفاظ بخمسة أخرى ، كما أشرنا أعلاه .
الثاني – أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ، أما المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولهذا جعل ابن الأثير ،الطباق أحد أنواع المقابلة ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة ، وأعظم موقفا . ويضرب ابن حجة مثلا لذلك فيقول : " ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى :
(( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون
. فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام ، وهما ضـدان ، ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين ، وهما السكون والحركة ، على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف ، فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة ، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون الحركة تكون لمصلحة ، ومفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة ، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة ، وحسن الاختيار ، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة