وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه :
(
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [ مريم : 42 ] ، فابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره ، ولم يسمه باسمه ثم أخرج الكلام معه مخرج السؤال ،
فقال : (
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ) ولم يقل لا تعبد
ثم قال : (
يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ) [ مريم : 43 ] ، فلم يقل له إنك جاهل لا علم عندك بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال : جاءني من العلم ما لم يأتك [ مريم : 43 ] ،
ثم قال : (
فاتبعني أهدك صراطاً سوياً ) [ مريم : 43 ] ، وهذا مثل قول موسى لفرعون (
وأهديك إلى ربك ) [ النازعات : 19 ] ،
ثم قال : (
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) [ مريم : 45 ] ، فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه كما يفعل الشقيق الخائف على من يشفق عليه .
وقال : (
يمسك ) فذكر المس الذي هو ألطف من غيره
ثم نكر العذاب ثم ذكر الرحمن ولم يقل الجبار ولا القهار فأي خطاب ألطف وألين من هذا .
ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال : (
يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) [ يس : 20 ، 21 ، 22 ] .
ونظير ذلك قول نوح لقومه (
يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) [ نوح : 2 ، 3 ، 4 ] ،
وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه
بل خطاب الله لعباده وألطف خطاب وألينه كقوله تعالى : (
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) [ البقرة : 21 ] ،
وقوله تعالى
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) [ الحج : 73 ] ،
وقوله : (
يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) [ لقمان : 33 ] ،
وتأمل ما في قوله تعالى : (
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) [ الكهف : 50 ] ، من اللطف الذي سلب العقول
وقوله : (
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ) [ الزخرف : 5 ] ، على أحد التأويلين أي نترككم فلا ننصحكم ولا ندعوكم ونعرض عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم .
وتأمل لطف خطاب نذر الجن لقومهم وقولهم : (
يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ) [ الأحقاف : 31 ] .انتهى