بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله, نحمَده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا, مَن يهده اللهُ فلا مضلَّ له, ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ
له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبدُه
ورسولُه.
أما بعد, فإن من الصفات التي لابد أن تتوفر في المعلّم: أسلوبُ التعليمِ النافعُ الحسَنُ الذي يوصل به العلمَ إلى الناس.
وكَم نجد مِن المعلمين مَن يكون عنده علم غزير, ولكن بسبب ضعْفِ أسلوبه نجد انتفاعَ الناس به قليلاً.
والإنسانُ قد يتصف بأسلوب التعليم الفلاني بفطرته, وقد يكتسبه بالتعلُّم والتجربة.
وإن قدوةَ المعلّمين نبيَّنا محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قد
ترك لنا الكثير مِن أساليب التعليم العظيمة النافعة القيّمة, وتناولها
العلماء الربانيون مِن بعده بالبيان والشرح والإيضاح.
وعندما كنت أدرس كتاب (الأربعون النووية) كانت تمر بي بعض هذه الأساليب,
وكنت أتمنى لو أنني أجمعها في بحث مستقل لكي تكون أسهل تناولاً مما لو كانت
منثورة في الشروح, وقد يسَّر الله لي ذلك والحمد لله؛ فجمعْتُ ما وقفتُ
عليه منها في هذا البحث المختصر الذي سميته:
*** أساليب تعليم نبوية مستفادة من الأربعين النووية ***
وعسى أن ييسر الله لي فأفردَ بحوثاً أخرى في أساليب التعليم النبوية في "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم" أو السنن الأربعة أو غير ذلك.
أسأل الله التوفيق, والإعانة, وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم, نافعًا لأمة سيد المرسلين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسلوب الأول:
ضرْبُ العالِم الأمثالَ للتوضيح والبيان
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها
فهجرته إلى ما هاجر إليه
وقوله: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة
الأسلوب الثاني:
أن المعلم لا يسرد المسائل على الطالب سرداً؛ لأن هذا يُنسى, بل يجعله أصولاً وقواعد وتقييدات, لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه.
أما أن تُسرَد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها.
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: فمن كانت هجرته .......
فقسم الهجرة إلى قسمين: شرعية, وغير شرعية
الأسلوب الثالث:
البدء بالأهم فالمهم
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: الإسلام أن تشهد أن
لا إله إلا الله وأن محمدأ رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم
رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً
وقوله: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
فقد بدأ بالشهادتين في تفسير الإسلام, وبدأ بالإيمان بالله في تفسير الإيمان.
الأسلوب الرابع:
أنَّ السائلَ لا يقتصر سؤاله على أمور يَجْهَل حكمَها، بل ينبغي له أن يسأل غيرَه وهو عالم بالحكم ليَسمع الحاضرون الجواب
نجد ذلك في مثل سؤال جبريلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عما سأله عنه في حديثه المشهور
وإن الذي يفعل ذلك يكون بذلك معلماً لغيره, ولهذا نسب إليه الرسول صلى الله
عليه وسلم في آخر الحديث التعليمَ؛ حيث قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم
دينكم"
والتعليم حاصل من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه المباشر له، ومضاف إلى جبريل لكونه المتسبِّب فيه.
الأسلوب الخامس:
تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية لتقريرها في الأذهان
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس
فشبَّهَ كونَ هذه الأمور هي الأساس لغيرها بأنها كالأعمدة بالنسبة للبنيان
فكما أن البنيان الحسي لا يقوم إلا على أعمدته؛ فكذلك الإسلام إنما يقوم على هذه الخمس
الأسلوب السادس:
تقديم ذِكر العدد على سرد المعدودات؛ لأن ذلك أبلغ في استيعابها وحصرها
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس (فذكر العدد): شهادة ...... (فسرَدَ المعدودات)
وفي مثل قوله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (فذكر العدد): الثيب.... (فسرد المعدودات)
الأسلوب السابع:
ضرب الأمثال المحسوسة لتتبين بها المعاني المعقولة
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: كالراعي يرعى حول الحمى.....
الأسلوب الثامن:
ذكر الشيء مجملاً ثم تفصيله
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة
الأسلوب التاسع:
تودد المعلم والأب والكبير إلى الصغار وإلى مَن يريد أن يوجهه بالألفاظ الحسنة
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: إني أعلمك كلمات
فهو عليه الصلاة والسلام استعمل لفظ التعليم وهي أوامر, فلم يقل: إني آمرك
بكذا وكذا, وإنما ذكر لفظ التعليم؛ لأنه من المعلوم أن العاقل يحب أن
يستفيد علماً
الأسلوب العاشر:
إتيان المعلم بما لم يتحمله السؤال
نجد ذلك في مثل قولِه صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: ألا أدلك على أبواب الخير؟
وقوله: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
وقوله: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟
مع أن معاذاً رضي الله عنه لم يسأل عن هذه الأمور
وهذا مِن عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعت الحاجة إلى ذكر شيء يضاف إلى الجواب أضافَه
الأسلوب الحادي عشر:
قياس الأشياء المعنوية على الأشياء الحسية
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار
الأسلوب الثاني عشر:
التعليم بالقول وبالفعل
نجد ذلك في مثل: فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا
فلم يقل: كف عليك لسانك, بل أخذ لسانه وقال: كف عليك هذا؛ لأنه إذا حصل
الفعل رأت العين وانطبعت الصورة في القلب بحيث لا ينسى, والمسموع يُنسى,
لكن المرئي لا يُنسى, بل يبقى في صفحة الذهن إلى ما شاء الله عز وجل, ولهذا
كان الصحابة رضي الله عنهم أحياناً يعلمون الناس بالفعل, ومن ذلك لما سئل
أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم دعا
بماء وتوضأ أمام الناس حتى يفقهوا ذلك بالفعل
ونجد ذلك أيضاً في مثل: التقوى ههنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات –
الأسلوب الثالث عشر:
التقديم بين يدي ذِكرِ الأمرِ المهم ما يحفز النفوس إليه
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: ألا أدلك على أبواب الخير؟
وقوله: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
وقوله: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟
الأسلوب الرابع عشر:
البلاغة في الموعظة
نجد ذلك في مثل قول العرباض رضي الله عنه: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة
قال ابن رجب: البلاغة في الموعظة مستحسنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها
والبلاغة هي: التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب
السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحِها وأحلاها للأسماع
وأَوْقَعِها في القلوب
الأسلوب الخامس عشر:
الجمع بين الترغيب والترهيب
نجد ذلك في مثل حديث العرباض رضي الله عنه
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه في الترغيب: عليكم...
وفي الترهيب: وإياكم....
الأسلوب السادس عشر:
ضرب الأمثال المقنع
نجد ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
لأنه لو قال: ازهد في الدنيا ولا تركن إليها وما أشبه ذلك؛ لم يفد هذا مثل
ما أفاد قوله: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَريْبٌ أَوْ عَابِرُ
سَبِيْلٍ".
ونجده أيضاً في مثل قوله: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر
الأسلوب السابع عشر:
فِعْلُ المعلمِ ما يلفت نظر المتعلم إلى وعيِ ما يلقى عليه ما يكون سبباً لانتباه المخاطَب وحضورِ قلبِه
نجد ذلك في قول معاذ رضي الله عنهما: أخذ رسول صلى الله عليه وسلم بمنكبي
الأسلوب الثامن عشر:
التشجيع على مثلِ السؤال المسؤولِ
نجد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: لقد سألت عن عظيم
الأسلوب التاسع عشر والأخير:
تهيئةُ المعلمِ العلمَ لمن يُعَلِّمُه ومن يخبره بالعلم
وذلك لقول ابن مسعود رضي الله عنه: وهو الصادق المصدوق
حيث أن هذا الحديث فيه شيء غيبي لا يدرَك لا بالحس ولا بالتجربة, إنما
يدرَك بالتسليم والعلم بالخبر لصدق المخبِر به عليه الصلاة والسلام
ففيه ذكر تنوع الحمل
ومعلوم أن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يعلمون ذلك الزمان تطورَ هذه
المراحل بعلمٍ تجريبيٍ أو برؤيةٍ أو بنحو ذلك, وإنما هو الخبر الذي
يصدقونه, فكانوا علماء لا بالتجريب وإنما بخبر الوحي على النبي صلى الله
عليه وسلم.
وهذا الأسلوب قد يقول قائل: إنه ليس على شرط هذا البحث, إذ إنه من عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه, والبحث كان حول أساليب التعليم النبوية
فالجواب: أني سميتُ البحثَ بهذا الاسم من باب التغليب, فإن كل الأساليب
التي فيه هي للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أسلوبين, وهما: هذا الأسلوب من
ابن مسعود رضي الله عنه, والأسلوب الرابع من جبريل عليه الصلاة والسلام.
وإلى هنا ينتهي ما أردتُ بيانَه.
والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
علي بن أمير المالكي
24 صفر 1433 هـ
مراجع البحث:
شرح الأربعين النووية, للشيخ العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله -
فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين, للشيخ العلامة عبد المحسن العبّاد - حفظه الله -
شرح الأربعين النووية, للشيخ العلامة صالح آل الشيخ - حفظه الله -