حكم الجمل بعد المعارف وبعد النكرات
من "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام**
يقول المعربون على سبيل التقريب: الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال.
وشرح المسألة مستوفاة أن
يقال: الجمل الخبرية التي لم يستلزمها ما قبلها إن كانت مرتبطة بنكرة محضة
فهي صفة لها أو بمعرفة محضة فهي حال عنها، أو بغير المحضة منهما فهي محتملة
لهما. وكل ذلك بشرط وجود المقتضي وانتفاء المانع.
مثال النوع الأول
وهو
الواقع صفة لا غير؛ لوقوعه بعد النكرات المحضة قوله تعالى: (حتى تنزل
علينا كتابا نقرؤه)، (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم)، (من قبل أن
يأتي يوم لا بيع فيه)، ومنه (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) وإنما
أعيد ذكر الأهل؛ لأنه لو قيل: استطعماهم مع أن المراد وصف القرية- لزم خلو
الصفة من ضمير الموصوف. ولو قيل: استطعماها- كان مجازا، ولهذا كان هذا
الوجه أولى من أن تقدر الجملة جوابا لإذا؛ لأن تكرار الظاهر يعرى حينئذ عن
هذا المعنى. وأيضا فلأن الجواب في قصة الغلام (قال أقتلت) لا قوله:
(فقتله)؛ لأن الماضي المقرون بالفاء لا يكون جوابا، فليكن (قال) في هذه
الآية أيضا جوابا.
ومثال النوع الثاني
وهو الواقع حالا لا غير؛ لوقوعه بعد المعارف المحضة (ولا تمنن تستكثر)، (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى).
ومثال النوع الثالث
وهو
المحتمل لهما بعد النكرة (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) فلك أن تقدر الجملة صفة
للنكرة وهو الظاهر، ولك أن تقدرها حالا منها؛ لأنها قد تخصصت بالوصف، وذلك
يقربها من المعرفة حتى إن أبا الحسن أجاز وصفها بالمعرفة فقال في قوله
تعالى: (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) إن
(الأوليان) صفة لآخران لوصفه بيقومان. ولك أن تقدرها حالا من المعرفة وهو
الضمير في (مبارك)، إلا أنه قد يضعف من حيث المعنى وجها الحال؛ أما الأول
فلأن الإشارة إليه لم تقع في حالة الإنزال كما وقعت الإشارة إلى البعل في
حالة الشيخوخة في (وهذا بعلي شيخا)، وأما الثاني فلاقتضائه تقييد البركة
بحالة الإنزال.
وتقول: ما فيها أحد يقرأ، فيجوز الوجهان أيضا؛ لزوال الإبهام عن النكرة بعمومها.
ومثال النوع الرابع
وهو
المحتمل لهما بعد المعرفة (كمثل الحمار يحمل أسفارا)؛ فإن المعرف الجنسي
يقرب في المعنى من النكرة، فيصح تقدير (يحمل) حالا أو وصفا. ومثله (وآية
لهم الليل نسلخ منه النهار)، وقوله:
792 - (ولقد أمر على اللثيم يسبني ...)
وقد اشتمل الضابط المذكور على قيود:
أحدها: كون الجملة خبرية
واحترزت
بذلك من نحو "هذا عبد بعتكه" تريد بالجملة الإنشاء، و"هذا عبدي بعتكه"
كذلك؛ فإن الجملتين مستأنفتان؛ لأن الإنشاء لا يكون نعتا ولا حالا.
ويجوز أن يكونا خبرين
آخرين إلا عند من منع تعدد الخبر مطلقا وهو اختيار ابن عصفور، وعند من منع
تعدده مختلفا بالإفراد والجملة وهو أبو علي، وعند من منع وقوع الإنشاء خبرا
وهم طائفة من الكوفيين.
ومن الجمل ما يحتمل الإنشائية والخبرية، فيختلف الحكم باختلاف التقدير.
وله أمثلة منها قوله
تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما) فإن جملة (أنعم الله
عليهما) تحتمل الدعاء فتكون معترضة، والإخبار فتكون صفة ثانية. ويضعف من
حيث المعنى أن تكون حالا، ولا يضعف في الصناعة لوصفها بالظرف.
ومنها قوله تعالى: (أو
جاؤوكم حصرت صدورهم)، فذهب الجمهور إلى أن (حصرت صدورهم) جملة خبرية. ثم
اختلفوا؛ فقال جماعة منهم الأخفش: هي حال من فاعل جاء على إضمار قد، ويؤيده
قراءة الحسن (حصرة صدورهم).
وقال آخرون: هي صفة؛ لئلا
يحتاج إلى إضمار قد. ثم اختلفوا؛ فقيل: الموصوف منصوب محذوف، أي قوما حصرت
صدورهم، ورأوا أن إضمار الاسم أسهل من إضمار حرف المعنى. وقيل: مخفوض
مذكور، وهم قوم المتقدم ذكرهم فلا إضمار البتة، وما بينهما اعتراض. ويؤيده
أنه قرىء بإسقاط (أو)، وعلى ذلك فيكون (جاؤوكم) صفة لقوم، ويكون (حصرت) صفة
ثانية.
وقيل: بدل اشتمال من (جاؤوكم)؛ لأن المجيء مشتمل على الحصر. وفيه بعد؛ لأن الحصر من صفة الجائين.
وقال أبو العباس المبرد:
الجملة إنشائية معناها الدعاء مثل (غلت أيديهم)، فهي مستأنفة. ورد بأن
الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن قتال قومهم لا يتجه.
ومن ذلك قوله تعالى:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فإنه يجوز أن تقدر لا ناهية
ونافية، وعلى الأول فهي مقولة لقول محذوف هو الصفة أي فتنة مقولا فيها ذلك،
ويرجحه أن توكيد الفعل بالنون بعد لا الناهية قياس نحو (ولا تحسبن الله
غافلا). وعلى الثاني فهي صفة لفتنة، ويرجحه سلامته من تقدير.
القيد الثاني: صلاحيتها للاستغناء عنها
وخرج بذلك جملة الصلة وجملة الخبر والجملة المحكية بالقول؛ فإنها لا يستغنى عنها بمعنى أن معقولية القول متوقفة عليها، وأشباه ذلك.
القيد الثالث: وجود المقتضي
واحترزت
بذلك عن نحو (فعلوه) من قوله تعالى: (وكل شيء فعلوه في الزبر) فإنه صفة
لكل أو لشيء، ولا يصح أن يكون حالا من كل مع جواز الوجهين في نحو "أكرم كل
رجل جاءك"؛ لعدم ما يعمل في الحال. ولا يكون خبرا؛ لأنهم لم يفعلوا كل شيء.
ونظيره قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق) يتعين كون (سبق) صفة ثانية لا
حالا من الكتاب؛ لأن الابتداء لا يعمل في الحال، ولا من الضمير المستتر في
الخبر المحذوف؛ لأن أبا الحسن حكى أن الحال لا يذكر بعد لولا كما لا يذكر
الخبر. ولا يكون خبرا لما أشرنا إليه.
ولا ينقض الأول بقوله: لولا رأسك مدهونا، ولا الثاني بقول الزبير رضي الله عنه:
793 - (ولولا بنوها حولها لخبطتها ...)
لندورهما.
وأما قول ابن الشجري في (ولولا فضل الله عليكم): إن "عليكم" خبر- فمردود، بل هو متعلق بالمبتدأ، والخبر محذوف.
القيد الرابع: انتفاء المانع
والمانع أربعة أنواع:
أحدها: ما يمنع حالية كانت متعينة لولا وجوده
ويتعين
حينئذ الاستئناف نحو "زارني زيد سأكافئه، أو لن أنسى له ذلك"؛ فإن الجملة
بعد المعرفة المحضة حال، ولكن السين ولن مانعان؛ لأن الحالية لا تصدر بدليل
استقبال. وأما قول بعضهم في (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين): إن (سيهدين)
حال كما تقول: سأذهب مهديا- فسهو.
والثاني: ما يمنع وصفية كانت متعينة لولا وجود المانع
ويمتنع
فيه الاستئناف؛ لأن المعنى على تقييد المتقدم فيتعين الحالية بعد أن كانت
ممتنعة وذلك نحو (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو
شر لكم) (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية)، وقوله:
794 - (مضى زمن والناس يستشفعون بي ...)
والمعارض فيهن الواو؛ فإنها لا تعترض بين الموصوف وصفته خلافا للزمخشري ومن وافقه.
والثالث: ما يمنعهما معا
نحو (وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون)، وقد مضى البحث فيها.
والرابع: ما يمنع أحدهما دون الآخر
ولولا المانع لكانا جائزين، وذلك نحو "ما جاءني أحد إلا قال خيرا"؛ فإن
جملة القول كانت قبل وجود إلا محتملة للوصفية والحالية، ولما جاءت إلا
امتنعت الوصفية. ومثله (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون). وأما (وما
أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) فللوصفية مانعان الواو وإلا.
ولم ير الزمخشري وأبو
البقاء واحدا منهما مانعا، وكلام النحويين بخلاف ذلك. قال الأخفش: لا تفصل
إلا بين الموصوف وصفته، فإن قلت: ما جاءني رجل إلا راكب- فالتقدير إلا رجل
راكب يعني أن راكبا صفة لبدل محذوف. قال: وفيه قبح؛ لجعلك الصفة كالاسم،
يعني في إيلائك إياها العامل.
وقال الفارسي: لا يجوز "ما مررت بأحد إلا قائم"؛ فإن قلت: إلا قائما- جاز. ومثل ذلك قوله:
795 - (وقائلة تخشى علي أظنه ... سيودي به ترحاله وجعائله)
فإن جملة تخشى علي حال من الضمير في قائلة، ولا يجوز أن يكون صفة لها؛ لأن اسم الفاعل لا يوصف قبل العمل.
والله أعلم.