حكم الرقص للرجال
الحمد لله الذي زين الرجال بالرزانة و الحزم و الترفع عن سفاسف الأمور ، وله الحمد أن ميز المسلم بالهيبة و السمت و الوقار على مر الأزمان و الدهور ، وبه الاستعاذة من تفشي الفساد و الشرور ، وبعد ..
فهذا جمع لطيف في حكم رقص الرجل قصدت به بيان الحق في هذه المسألة باختصار ، ضارباً على قول من اتخذه ديناً وقربة إلى الرب الجبار ! فلم أتعرض لهم بحكاية ولا انتقاد ، فالله نسأل الإعانة و السداد :
أولاً : حكم الرقص في المذاهب الأربعة
جاء في الموسوعة الفقهية ( بتصرف يسير لا يخل ) انظر من [23/9] :
" ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة والقفال من الشافعية إلى كراهة [ قلت : التحريم ] الرقص معللين ذلك بأن فعله دناءة وسفه، وأنه من مسقطات المروءة، وأنه من اللهو.
قال الأبي: وحمل العلماء حديث رقص الحبشة على الوثب بسلاحهم، ولعبهم بحرابهم، ليوافق ما جاء في رواية: يلعبون عند رسول الله بحرابهم .
وهذا كله ما لم يصحب الرقص أمر محرم كشرب الخمر، أو كشف العورة ونحوهما، فيحرم اتفاقا.
وذهب ابن تيمية [ قلت : وغيره كثير من الأئمة ] إلى أن اتخاذ الرقص ذكرا أو عبادة، بدعة ومعصية، لم يأمر الله به، ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة، أو السلف.
وذهب الشافعية إلى أن الرقص لا يحرم ولا يكره بل يباح، واستدلوا بحديث عائشة قالت: جاء حبشة يزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم . وهذا دليل على إقراره صلى الله عليه وسلم لفعلهم، فهو دليل على إباحته، ودليله من المعقول أن الرقص مجرد حركات على استقامة واعوجاج.
وذهب البلقيني إلى أن الرقص إذا كثر بحيث أسقط المروءة حرم، والأوجه في المذهب خلافه.
وقيد الشافعية الإباحة بما إذا لم يكن فيه تكسر كفعل المخنثين وإلا حرم على الرجال والنساء، أما من يفعله خلقة من غير تكلف فلا يأثم به.
قال في الروض: وبالتكسر حرام ولو من النساء .
شهادة الرقاص:
اتفق الفقهاء على رد شهادة الرقاص لأنه ساقط المروءة، وهي شرط من شروط صحة الشهادة " انتهى .
وعزت إلى كل من ]المبدع 10 / 226، فتاوى ابن تيمية 5 / 64، 83، 11 / 599، 604، 605، بلغة السالك 2 / 138، حاشية ابن عابدين 3 / 307، 5 / 253، نهاية المحتاج 8 / 282، حواشي تحفة المحتاج 10 / 221، روض الطالب وشرحه للأنصاري 4 / 346، مغني المحتاج 4 / 430، وكشاف القناع 5 / 184، وشرح الأبي على مسلم 3 / 43 ]
ثانياً : بيان الراجح و سرد أدلته
و الراجح قول الجمهور وهو تحريم الرقص وذلك لأمور :
أولاً : استدلالاً بما يلي :
قوله تعالى { ولا تمش في الأرض مرحا } قال القرطبي في تفسيره [10/263] : [ استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال:" ولا تمش في الأرض مرحا" وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر ]
ولأنه من إحداث أصحاب السامري ، قال في عون المعبود [ 13/187] : [ في كتاب المستطرف في مادة عجل نقل القرطبي عن سيدي أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله تعالى أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان فيقرؤن من القرآن ثم ينشد لهم الشعر فيرقصون ويطربون ثم يضرب لهم بعد ذلك بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أم حرام فقال مذهب الصوفية أن هذه بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذوا العجل فهذه الحالة هي عبادة العجل ] وانظر تفسير القرطبي [10/366] فكان تعاطي الرقص تشبهاً في عبادة هؤلاء ، حتى يهود اليوم نجد الرقص من عباداتهم فوجب مخالفتهم و تحريم التشبه بهم .
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، قال الخطابي في معالم السنن [2/242] : [قلت وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه ]
ثانياً : لأن فيه إخلالاً بالمروءة و مقام الرجولة : قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (2/220) : [ وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه، وقد قال - عليه السلام -: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ، ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك ]
ثالثاً : لأن فيه تشبهاً بالنساء ، بدليل أن أهل المذاهب اتفقوا على رد شهادة متعاطي هذا الفعل – كما مضى - ، قال ابن عثيمين : [ إن كان من الرجال فهو أقبح ، وهو من تشبه الرجال بالنساء ، ولا يخفى ما فيه ] " فتاوى إسلامية " ( 3 / 187) .
رابعاً : لا يوجد ما يدل على إباحته بل هو حادث مخترع ، قالت اللجنة الدائمة تحت السؤال رقم [4230] : [ الرقص للرجال -سواء كان معه ضرب دف أم لا- لا نعلم له دليلا يدل على مشروعيته ]
و قال ابن عابدين في فتاويه [2/323] : [ الحق الذي هو أحق أن يتبع وأحرى أن يدان به ويستمع أن ذلك كله من سيئات البدع حيث لم ينقل فعله عن السلف الصالحين ولم يقل بحله أحد من أئمة الدين المجتهدين - رضي الله عنهم - ]
والذي جوزه الشافعية هو بخلاف ما نراه اليوم من تلوي وتكسر ! بل لعل غاية ما أجازوه هو الحركة الخفيفة و الميل اللطيف ، قال النووي في روضة الطالبين [11/229] : [قال الحليمي: لكن الرقص الذي فيه تثن وتكسر يشبه أفعال المخنثين حرام على الرجال والنساء ] ولم يتعقبه بشيء مقراً له ، وهذا منصوص عليه في كتب الشافعية .
ثالثاً : إبطال أدلة المخالف
أما من جوز الرقص مطلقاً فلا دليل معهم وهاك بعض أدلتهم و الرد عليها :
1- استدل بعض الجهال بقوله تعالى : { اضرب برجلك } ، فأبطل ابن الجوزي استدلالهم وقال : [ هذا احتجاج بارد، لانه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء إعجازا من الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الاسلام جاز أن يجعل قوله سبحانه " اضرب بعصاك الحجر " جوازا على ضرب المحاد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع ] من المجموع شرح المهذب للنووي نقله مقراً له [ 18/83]
2- واستدلوا بحديث علي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر، وزيد، قال: فقال لزيد: " أنت مولاي " فحجل، قال: وقال لجعفر: " أنت أشبهت خلقي وخلقي "، قال: فحجل وراء زيد، قال: وقال لي: " أنت مني، وأنا منك "، قال: فحجلت وراء جعفر .
وقد رواه الإمام أحمد في المسند [857] ، ولكنه لا تقوم به حجة فهو ضعيف فيه هانئ بن هانئ وهو مستور كما قال الحافظ ابن حجر فلا يحتمل تفرده ، وقد تفرد بهذا اللفظة ، فالحديث هكذا منكر ضعيف .
وعلى فرض صحته ، فالحجل هنا مختلف في معناه ، و الصحيح كما [ قال أبو عبيد: الحجل: أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى من الفرح، وقد يكون بالرجلين جميعا إلا أنه قفز وليس بمشي] ( تهذيب اللغة 4/8
3- واستدلوا بقصة لعب الحبشة في المسجد و إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وقد ورد فيها أنهم كانوا [ يلعبون بالحراب ] أو [ يرقصون ] أو [ يزفنون ] و الجواب على ذلك :
أولاً : صرحت بعض الروايات أنهم كانوا يرقصون ، ولكنهم كانوا صبياناً كما في قالت عائشة رضي الله عنها وهو صحيح عنها كما في سنن الترمذي .
ثانياً : كان رقصهم بالسلاح و الحراب ، بقصد التدرب على القتال ، فشتان بين حالهم وحال من يستدل بحكايتهم ليجوز رقصه ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح [ 6/553] : [استدل قوم من الصوفية بحديث الباب على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو والله أعلم ] .
ثالثاً : كان قصدهم من هذا اللعب قصداً شرعياً مطلوباً وهو التمرن للحرب و القتال ، وليس الرقص المعروف ، بل إن من معاني الرقص الارتفاع و الانخفاض فمن استدراكات شارح "القاموس" الزبيدي (15/445 ما نصه: "قال أبو بكر: الرقص فياللغة: الارتفاع والانخفاض. وقد أرقص القوم في سيْرهم إذا كانوا يرتفعونوينخفضون". ، فيحمل على هذا المعنى لسياق الرواية و ظاهر الحال لأنهم كانوا في المسجد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي والحال كذلك حمل معنى لعب الحبشة بأسلحتهم في هذا الحال على مجرد الرقص .
قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي شارحاً : [ (يزفنون) معناه يرقصون وحمله العلماء على التوثب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الرقص لأن معظم الروايات إنما فيها لعبهم بحرابهم فيتأول هذه اللفظة على موافقة سائر الروايات]
وقد جاء في بعض الروايات في وصفهم أنهم أصحاب الدركلة ، انظر الصحيحة [ 1829 ] فاعرف أنها ضرب من لعب الصبيان كما قال ابن الأثير
4- و يستدلون على قولهم بأن الأصل بالأشياء الإباحة ، وأن الرقص ما هو إلا حركات و اعوجاج ، وقد تقدم الرد على هذا بسرد أدلة المحرمين وهي ظاهرة بحمد الله .
منقـــــــــــول