بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِـــيمِ
ـــ الأُسْـرَةُ فِي رَمَضَانَ* ــــ
كان سلفنا الصالح يولون شهر رمضان اهتمامًا خاصًّا، وكانوا يدعون الله أن يبلغهم رمضان وإذا انقضى يدعونه أن يتقبَّله منهم ... ذلك لأنَّهم أدركوا قيمة رمضان ودقائقه النفيسة، فحرصوا على نيل فضائله فتهيَّؤوا له أفرادًا وأُسَرًا بالتقوى والإيمان لا بالزَّخارف والأشكال، بالصَّلاة والصِّيام لا بالبَهْرَجَة والزِّينة، فاقتداءً بسلفنا الصَّالح وقدوتهم وقدوتنا النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رأيتُ من الواجب تذكير أرباب الأُسَر بما يجب أن يقوموا به تُجَاه أُسَرِهم لتحصيل ما حصله السلف والسير على طريقهم، فمن فعل ذلك فقد فاز وفلح ومن أهمل فقد خاب وخسر.....
* توجيهات تربويـــة للأسرة لاستغلال شهر رمضان:
وهذه بعض التوجيهات التربوية التي تعين الأسرة لتقضي رمضان كما كان يقضيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ليحرص كُلُّ راعٍ في بيته على اتباعها لتنشأ أسرته على الخير، وصدق الشاعر لما قال:
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوَّده أبوه
1- أن يحرص الوالدان على تذكير أولادهم بحقيقة رمضان قبل مجيئه عن طريق عقد حلقات في البيت في فقه الصيام خلال شهر شعبان فضلًا عن حلقات المساجد، عملًا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
2- تعويد الأطفال الصغار على الصيام وتصبيرهم على ذلك وتشجيعهم بهدايا تقدم لهم بعد الإفطار، فقد كان السلف يعودون أبناءهم على الصيام، عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها قالت: (أرسل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: مَن أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصُم، قالت: فكنا نصومه بعدُ ونصوِّم صبياننا [الصغار ونذهب بهم إلى المساجد] ونجعل لهم اللُّعبة من العِهن[1] فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)[2].
قال النووي: "وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلَّفين، قال القاضي: وقد روي عن عُرْوة أنَّهم متى أطاقوا الصَّوم وجب عليهم، وهذا غلطٌ مردود بالحديث الصحيح: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم" ـ وفي رواية "يَبْلُغُ" ـ، والله أعلم"[3].
3- حثُّ أهل البيت على المحافظة على الصلوات المفروضة في أوقاتها وأدائها في المساجد للذكور وكذا سائر الواجبات الشرعية، وحثهم على صلاة التراويح فإنَّها راحة، فقد قال المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"[4]، كما يشجع الأطفال عليها من خلال جوائز تقدم لهم مثلًا في نهاية رمضان لمن أتمَّ قيام رمضان.
4- ترغيبهم في الإكثار من تلاوة القرآن ومراجعته، وتنويع الأذكار، ويستحسن تنظيم مسابقات في القرآن بين الأولاد، فقد كان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، والحرص على النوافل، دون أن يفوتهم التذكير بآيات القرآن وهو تدبره، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
وقد نعى القرآن على أولئك الذين لا يتدبرون القرآن ولا يستنبطون معانيه، فقال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82].
5- تذكيرهم بمفسدات الصَّوم الَّتي قد يغفل عنها الكثير من النَّاس من اللَّغو والرَّفَثِ والغِيبَةِ والنَّميمةِ وقول الزُّورِ وكُلِّ المحرمات، فرمضان ليس مجرَّد إمساك عن الطعام والشَّراب، بل كذلك إمساك الجوارح عن المحرَّمات، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (الصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُث وَلَا يَفْسُق وَلَا يَجْهَل، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)[5].
6- اغتنام رمضان للدَّعوة إلى الله تعالى من خلال الجلسات العائليَّة وصلة الرَّحم، وأن يلازموا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فالقلوب مهيَّأة لذلك في مثل هذا الشَّهرِ.
7- عدم إثقال كاهل الأمِّ بجملة من طلبات المأكولات المتنوِّعة، فهي أيضًا تحتاج إلى التَّزوُّدِ بالإيمان في هذا الشَّهرِ، وعلى أفراد الأسرة الرِّضى بالقليل المعين على العبادة الذي هو خير من الكثير الملهي عن الطَّاعة.
وننصح الأمَّ بأن تستغل وقت اشتغالها في المطبخ ـ دون أن تنسى استحضار النيَّة الخالصة في إطعامها وعملها وتعبها لها ولأولادها وزوجها ـ بذكر الله وبالاستماع للمحاضرات والدُّروس النافعة عبر جهاز التَّسجيل الخاصِّ بالمطبخ، وهنا أُرَغِّب وأحثُّ الأبَ والأخَ على الحرص على توفير جهاز تسجيل خاصٍّ بالمطبخ، فالمرأة تقضي كثيرًا من وقتها فيه، فلعلَّها أن تستغلَّ هذا الوقت فتستفيد فوائد كثيرة وهذا مجرَّب، وليكون ذلك عهد جديد بعد رمضان.
8- حثُّ الأهل على الإنفاق في سبيل الله وتفقُّد الجيران والمحتاجين، فعن ابن عبَّاس قال: (كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أجود بالخير من الرِّيح المرسلة)[6]، ولو أنْ يمنح الوالد أو الوالدة مالًا لأولادهما ليقدموه بدورهم صدقةً للفقراء لكانت وسيلة تربويَّة ناجعة للطِّفل، أو أن يجعلوا صندوقًا في البيت يجمعون فيه أموالًا للفقراء من مداخيلهم.
9- على الوالدين أن يحرصا على تنظيم حلقاتٍ مع أولادهم في تفسير كلام الله أو شرح حديثٍ من أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم خلال رمضان ويجنِّبوهم السَّهر أمام التِّلفاز، أو اللَّهو واللَّعب وغيرها من الملهيات والمغريات وما أكثرها في زماننا، وقد سبق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
10- يحرص الوالد على شدِّ المئزر وإيقاظ أهله لإحياء العشر الأواخر من رمضان فإنَّ فيها ليلة هي خيرٌ من ألف شهر، كما كان يفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 1-3]، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[7]، وكان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يتحرَّى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحرِّيها وكان يوقظ أهله ليالي العشر رجاء أن يدركوا ليلة القدر.
وليحذر المسلم أن يسيطر عليه الفتورُ في هذه اللَّيالي العظيمة فيقضيها الأب في الأسواق لاقتناء حاجيات العيد لأولاده، والأُمُّ في المطبخ لإعداد الحلويات فلَّعلهما لا يدركان العيد فـ:
ليس العيد لمن لبس الجديد *** بل العيد لمن طاعاته تزيد
11- صلة الرَّحم وتفقُّد الفقراء منهم وتفطيرهم لما في ذلك من الأجر العظيم وتكليف الصِّبيان بصلتهم بين الفَيْنَة والأخرى لتدريبهم على ذلك.
12- ومَنْ فتح اللهُ عليه ووفَّقه لأداء عُمْرَةٍ في رمضان مع أسرته فذاك مِنَّة منه تعالى، فقد ثبت عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنَّه قال: (عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدلُ حَجَّةً)[8]، فهنيئًا لك ـ أيُّهَا الصَّائم ـ.
~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~
** آثــارُ رمضـــانَ على الأســــرة:
رمضان أعظمُ مدرسةٍ إيمانيَّة في حياة المسلم، فمِنْ خلال التَّوجيهات السَّابقة تكون الأسرة قد حقَّقت خيرًا كبيرًا في حياتها وجنت ثمارًا نافعة، ونذكرها لشحذ الهِمَم ودفعها للعمل لأجل تحقيقها ولِتَعيشَ بها لما بعد رمضان، ومن أعظم هذه الدُّروس:
1) توحيد الله ومراقبتُه في السِّرِّ والعَلَنِ، وتعميق الإيمان باليوم الآخر والجنَّة والنَّار من خلال الصِّيام والقيام وملازمة دعاء الله بالعِتْقِ من النَّار.
2) حبُّ القرآن وذكر الله والمسجد للاستدامة عليه خلال وبعد رمضان.
3) شعورٌ مستمرٌّ بما يعانيه الفقراء والمساكين طِيلة أيَّام السَّنة، وهو ضرب من التَّكافل.
4) حبُّ النَّوافل والاجتهاد فيها لما تُوَرِّثه من محبَّة الله.
5) المحبَّة والمودَّة بين أفراد الأسرة من خلال الاجتماعات التَّعليمية وحتَّى على مائدة الإفطار.
6) حبُّ العلم والاستشعار بضرورته في حياة المسلم من خلال حلقات الذِّكر في المساجد والتَّعوُّد عليها.
7) حبُّ الدَّعوة إلى الله والحرص على القيام بها؛ لأنها واجبٌ دينيٌّ.
الصَّبرُ على الشَّدائد من خلال الصِّيام والقيام، وتدريب النَّفس على العفو والصَّفح والتَّسامح والتَّعاون والتَّآخي.
9) التَّخلُّص من الشُّحِّ والبُخلِ من خلال الصَّدقات.
10) تنظيم الأوقات للعبادة والأكل والشُّرب والعلم.
...:: وأخيرًا نــداءٌ لجميع الأُسَر ::...
أَدْرِكـوا قيمةَ رمضانَ ودقائقَه الغالية ولحظاته الَّتي لا تعوَّض.
فرمضان فرصة لا يمكن أن يفرِّط العاقلُ فيها ...
فرصةٌ للتَّخفيف من الآثام والأوزار ...
فرصة لمغفرة الذُّنوب والسَّيِّئات ...
فرصة للعِتْقِ من النَّار ...
فرصة لمراجعة النَّفس ومجاهدتها في الله.
فلتُسارع الأسرُ ولتَتَسابق إلى الخيرات، فعساها أن تُدرك رمضان هذه السَّنة ولا تدركه السَّنة المقبلة؟!!
من مقال بعنوان (الأسرة في رمضان) لـ "وسيلة حماموش" من مجلة الإصلاح العدد الرابع، ص 75 ـ80، الصادر في رجب ـ شعبان عام 1428 للهجرة النبوية
ـــــــــــــــــــــــ
[1]العِهْن هو الصوف.
[2]رواه البخاري (1859)، ومسلم (1136)، والزِّيادة بين المعكوفتين له.
[3]شرح صحيح مسلم (8/14).
[4]متفق عليه.
[5]رواه البخاري (1805)، ومسلم (1151).
[6]رواه البخاري (4711)، ومسلم (2308).
[7]رواه البخاري (1802)، ومسلم (760).
[8]رواه البخاري (1690)، ومسلم (1256).