الإنحدار إلى جحر الضبّ
"لتتبعُنّ سنن الذين مِن قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتّى لو سلكوا جحر ضبّ لسلكتموه"، قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟".. هذا الحديث من النّصوص الشّرعية التي يحفظها أغلب المسلمين عن ظهر قلب، لكنّه أيضا من النّصوص التي يفهم كثير منهم معناها ويخالفون فحواها، ومع أنّ الحديث يؤكّد على أنّ اتّباع اليهود والنّصارى في سفاسف الأمور يقود حتما إلى جحر الضبّ، حيث النّتن والضيق والظّلمة، إلاّ أنّ بعض المسلمين يرون أنّ تقليد الغرب في زبَد الحضارة من دون زبدتها أمارة على التقدّم والانفتاح!.
نحن في 2017م!
لقد مرِجت العقول وطاشت الأحلام، وصار كلّما تحدّث متحدّث عن التّديّن والالتزام، وعن الحياء والعفاف والاحترام، سمع من يقول له: يا أخي إنّنا في العام 2016.. أو في العام 2017، وأنت ما تزال تتحدّث عن هذه الأمور، فيظنّ أنّ محدّثه يريده أن يخوض معه في عالم الذّرّة والمجرّة والشّفرة الوراثيّة والجينوم والاستنساخ وأجيال الحواسيب والتكنولوجيا الرّقميّة، لكنّه إذا سأله: ما هو العام 2016 أو 2017؟ أجابه: العالم قد تطوّر، نحن الآن في زمن الحرية و"المُوضة" والألحان، والرّياضة والمغامرات والأفلام. هذا هو زماننا، ونحن نعيش زماننا ولا نريد العودة إلى الوراء!. يرى أنّ الترفّع عن حياة الشّهوات والملهيات، والتزام أحكام الشّرع في العبادات والأخلاق والمعاملات، هو تخلّف وعودة إلى الوراء، مع أنّه ما يمرّ عام إلاّ وتزداد الحقائق العلميّة الدّالّة على عظمة هذا الدّين في عقائده وعباداته ومعاملاته، وفي فرائضه وسننه ومستحبّاته، وتتوالى الأدلّة على أنّه الحقّ من ربّ العالمين ((سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ))، ولمّا كنّا بعيدين عن العلم النّافع بعدنا عن ديننا الحقّ، وانشغلنا عنهما بزبد الحضارة ووسخها، وبقشورها التي صارت لبابا في نظرنا، بينما صارت فرائض الدّين وسننه قشورا!.
لماذا يكاد التّقليد الأعمى يكون حكرا على المسلمين؟
لكلّ أمّة من الأمم، حتّى الوثنيّة منها، ثوابت وخصوصيات تُحترم، ويَتمسّك بها أفرادها تمسّكا عجيبا رغم مخالفتها في كثير من الأحيان للعقل والفطرة، فتجد المرأة الهنديّة مثلا تفخر أمام العالم بلباسها التّقليديّ المتميّز، وبالحلَقة المعلّقة في أنفها، وتجد الرّجل السّيخيّ يتجوّل في شوارع المدن الأوروبيّة وقد أرخى لحيته وكوّر عمامته، أمّا نحن المسلمين فقد صرنا نستحي من سمْتنا الذي يجمع بين السّتر والبهاء، ليس في بلاد الغرب فحسب، وإنّما في بلاد المسلمين أيضا.
أصبحت شوارع بعض مدننا لا تختلف كثيرا عن شوارع نظيراتها الغربيّة، وصار من يسير في شوارع المدن الإسلاميّة لا يكاد يرى ما يدلّه على الإسلام لولا المآذن الشّامخة، والخُمر الموضوعة على رؤوس بعض المسلمات؛ تقليد أعمى في اللّباس. تقليد أعمى في العادات والمعاملات، وفي الأفراح والأعراس والمناسبات، وتقليد أعمى في الكلام والرّطانة وفي كثير من الأخلاق...، والعذر الجاهز دوما هو "الإسلام في القلب"!.
التّقليد الأعمى في اللّباس
اللّباس الذي ما سُمّي لباسا إلا لأنّه يُلبس العورة أي يخفيها ويسترها، أصبح عند كثير من شبابنا أذواقا وموضات وصيحات تجعل الحليم حيرانا؛ لا يهمّهم مِن أين يكون مصدره ولا مَن يلبسه، المهمّ أن يكون باهظ الثّمن، غريبا في خياطته وشكله ولونه. حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى لبس سراويل مقطّعة مرقّعة، وأخرى تظهر اللّباس الدّاخليّ، لا يلبسها إلا الشواذّ والمنحرفون وعبدة الشّيطان في الغرب.
وحال الشّباب هذه، لا تختلف عنها حال كثير من فتياتنا اللاتي أصبح الحياء عندهنّ موضة قديمة تدلّ على الرّجعية والتخلّف وتدعو إلى السّخرية والازدراء، والتندّر والاستهزاء؛ يوم تهافتن على لبس السّراويل التي أصبحت زيًا رسميا لأغلب الفتيات، وعلى ارتداء ألبسة غربيّة ضيّقة مُزرية لا تكاد تفرّق بينها وبين ألبسة أشباه الرّجال من المستهترين. بل ما عاد هناك فرق بين ألبسة الشّباب وألبسة الفتيات، والله المستعان.
التقليد الأعمى في التحيات واللّهجات
أمّا تحيّة الإسلام التي هي تحية جميع الأنبياء وتحية أهل الجنّة، فقد استبدلناها –إلا من رحم الله- بتحيات وكلمات هي ترجمة للعبارات التي يستخدمها الغربيون؛ لا تكاد تسمع في شوارعنا إلا عبارات مثل: "صباح الخير"، "مساء الخير"، "نهار جميل"، "ليلة سعيدة"... وكثيرا ما تكون هذه العبارات باللّغة الفرنسيّة "Bon Jour"، "Bon Soir"، "Bay Bay"،...
وأمّا لغتنا العربيّة الجميلة، فقد استبدلناها برطانة أعجميّة ممجوجة مكسّرة، وصار الذي لا يلوي لسانه ببعض الكلمات الأعجميّة يعدّ متخلّفا عند كثير من النّاس، أمّا من يصرّ على ملء الوثائق الإدارية وتحرير الطّلبات الخطية باللّغة العربيّة، فذاك شخص يعيش في غير زمانه!.
التّقليد الأعمى في الأعياد والمناسبات
لقد فتَرت همم كثير من المسلمين في الاحتفال والاحتفاء بالأعياد الدينيّة، وتهافتوا في المقابل على الاحتفال بالأعياد النّصرانيّة والغربيّة، حتى بلغ الأمر ببعض المسلمين إلى الاحتفال بمناسبات تمثّل شعائر أديان وثنية بائدة، أحياها النّصارى وجعلوها شعارا لدينهم المحرّف.
مناسباتنا وأفراحنا اكتست بدورها حلّةً غربيّة، بدءًا من لباس العروسين، مرورا بالمظاهر التي تميّز موكب العرس، وليس انتهاءً بالحفلة التي ترتفع فيها الأصوات المنكرة ويختلط الحابل بالنّابل.
التّقليد الأعمى في المعاملات
دبّ في أوساط كثير من المسلمين داء اليهود في التّحايل على المحرّمات؛ فاستحلّ بعضهم الرّبا وسمّوه فائدة، وتساهلوا في أخذ وإعطاء الرّشوة وسمّوها هدية، واستباح المستهترون منهم الخمر وسمّوها مشروبات كحولية، واقترفوا الزّنا وسمّوه علاقات خارج الزّواج، واستمرؤوا صنوفا شتّى من الحيل في البيع والشّراء بذريعة أنّ "التّجارة شطارة".
ولعلّ المفارقة العجيبة هي أنّ اليهود يعاملون غيرهم بمثل هذه المعاملات التي لا يتعاملون بها فيما بينهم، بينما يتعامل بها المسلمون فيما بينهم!.
التّقليد الأعمى دليل على ضعف الشّخصية وغياب الوازع الدّينيّ
إنّ التشبّه باليهود والنّصارى في عباداتهم وعاداتهم ومعاملاتهم دليل على ضعف الشّخصية وخفّة العقل، ودليل على ضعف الإيمان وغياب الوازع الدّينيّ، لأنّ مشابهة المشركين في ما هو من خصائص أديانهم المحرّفة، كبيرة من الكبائر، ومشابهتهم في عاداتهم التي تخالف الإسلام، من المحرّمات، والنبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- حذّر من كلّ ذلك فقال: (من تشبّه بقوم فهو منهم)، وقديما كان يقال: "لا يشبه الزيُّ الزيَّ حتى تشبه القلوبُ القلوبَ"، وحقيقةً فإنّ تشابه المظاهر يورث سقوط الحواجز وتآلف الجواهر، ويؤدّي إلى موت عقيدة الولاء والبراء في النّفوس؛ يقول الله جلّ وعلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)) (المائدة).
كتبه سلطان بركاني **جريدة الشروق**
نقله إليكم لخضر الجزائري