من فضائل الصحابة وبعض ما امتازوا به على غيرهم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين:
أما بعد: لما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أفضل الناس بعد الأنبياء، وجيلهم أفضل الأجيال، وهم أعلم بدين الله عز وجل من غيرهم، فإن فهمهم للدين هو الفهم الصحيح الذي يجب إتباعه، والتمسك به، ولذلك كان من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة إتباع ما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، في كل أمورهم، والتمسك بهديهم ومنهجهم، والتحذير من مخالفتهم.
قال الإمام أحمد: ( أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع)(1 ).
فهم خير الناس، وأعلم هذه الأمة، بل هم خير الأمم جميعاً عدا الأنبياء، فلذلك اختارهم الله عز وجل لصحبة خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فلا يمكن أن يأتي أحد بعدهم أفضل منهم، ولو أتي بكل أنواع الخير، وهذا باجماع السلف الصالح، ومن سار على منهجهم، إلا من شذ عن سبيلهم، وقد ثبت ذلك بشهادة الشهيد على هذه الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، حيث قال:
( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام: تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته(2).
وقال - صلى الله عليه وسلم-: ( يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فيقولون: نعم، فيفتح لهم.
ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟
فيقولون: نعم، فيفتح لهم.
ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب من صحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟
فيقولون: نعم، فيفتح لهم)(3 ).
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ( إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه)( 4).
وقد ثبت من أقوال جمع من أهل السنة مكانة الصحابة، وفضلهم، وحجية قولهم، بشرط عدم معارضة بعضهم لبعض.
قال البر بهاري(5 ): ( فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كذبهم، وكفى بهذا فرقة وطعناً عليهم، فهو مبتدع، ضال، مضل، محدث في الإسلام ما ليس فيه)( 6).
ونقل الخطيب البغدادي عن الحسين بن إدريس قال: ( وسألتُه يعني محمد بن عبد الله بن عمار: إذا كان الحديثُ عن رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيكون ذلك حجَّة؟ قال: نعم!
وإن لَم يسمِّه؛ فإنَّ جميعَ أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كلّهم حجّة)(7 ).
وقال أبو عمرو بن الصلاح: (للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
قال الله تبارك وتعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس)[آل عمران:110]، قيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)[ البقرة: 143]، وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ.
وقال سبحانه وتعالى: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار)[الفتح: 29].
وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة، منها حديث أبي سعيد المتفق على صحته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ".
ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله - سبحانه وتعالى- أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة). (8 ) انتهى كلام ابن الصلاح.
وقال النووي: ( الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم، بإجماع من يعتد به)(9 )، وقال: ( ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين)(10).
وقال ابن القيم: ( فصل من بلغ بعد الرسول: ثم قام بالفتوى بعده برك الإسلام، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، أولئك أصحابه، - صلى الله عليه وسلم - ألين الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها بياناً، وأصدقها إيماناً، وأعمها نصيحةً، وأقربها إلى الله وسيلةً، وكانوا بين مكثر منها، ومقل، ومتوسط)(11 )
وقال: ( إنما استحقوا منصب الإمامة، والإقتداء بهم، بكونهم هم السابقين، وهذه صفة موجودة في كل واحد منهم، فوجب أن يكون كل منهم إماماً للمتقين، كما استوجب الرضوان والجنة)(12 ).
وقال: (فمستندهم في معرفة مُرَاد الرب تعالى من كلامه، ما يشاهدونه من فعل رسوله، وهديه الذي هو يفصل القرآن، ويُفَسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟
هذا عين المحال)(13 ).
وقال: ( فكيف نكون نحن، أو شيوخنا أو شيوخهم، أومن قلدناه، أسعد بالصواب منهم، في مسألة من المسائل، ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين، والعلم، والله المستعان) ( 14).
والله تعالى أعلم
سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
__________________________
(1 ) أصول السنة للإمام أحمد(1/15).
(2 ) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.
(3 ) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.
(4 ) مسند الطيالسي(1/33ـ 246)، وأحمد(1/379ـ 3600)، والبزار(5/119ـ1702) من حديث عبد الله بن مسعود.
( 5) هو الحسن بن علي بن خلف البربهاري، أبو محمد: شيخ الحنابلة في وقته.
من أهل بغداد، كان شديد الإنكار على أهل البدع، بيده ولسانه، وكثر مخالفوه فأوغروا عليه قلب القاهر العباسي (سنة 321 هـ) فطلبه، فاستتر، وقبض على جماعة من كبار أصحابه ونفوا إلى البصرة، وعاد إلى مكانته في عهد الراضي، ونودي ببغداد: لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان! واستتر البربهاري فمات في مخبأه، له مصنفات، منها (شرح كتاب السنة).
والبربهاري نسبة إلى (البربهار) وهي أدوية كانت تجلب من الهند ويقال لجالبها البربهاري، ولعلها ما يسمى اليوم بالبهارات.
أنظر طبقات الحنابلة (2/16) وفيه: بلغ من كثرة أصحاب البربهاري أنه عطس وهو يجتاز بالجانب الغربي من بغداد، فشمته أصحابه، فارتفعت ضجتهم حتى سمعها الخليفة - الراضي - وهو في روشنه، فسأل عن الحال، فأخبر بها، فاستهولها!.
( 6) شرح السنة للبربهاري (1/39).
( 7) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي(1/415).
( معرفة أنواع علوم الحديث، ويُعرف بمقدمة ابن الصلاح(1/295).
( 9) التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث للنووي(1/21).
( 10) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي(8/118).
( 11) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم(1/11).
( 12) المصدر السابق(4/128).
( 13) المصدر السابق (4/153).
( 14) المصدر السابق (4/150).