السلام عليكم
إنّ للتاريخ أهمية قصوى في حياة الأمم والشعوب, لذلك نجدها أولته رعايتها
البالغة، وسعت إلى جمعه في شكل مدونات عن سير الأجداد، أو عبر المحافظة على
الموروثات، أو من خلال القصص الشعبي، ليؤدي دوراً مهماً في تعبئة وجدان
الناشئة، حتى ينشب الشبل ناسجا على منوال أجداده,محافظاً على قيم شعبه
الموروثة كابراً عن كابر.
وقد احتل التاريخ هذه المكانة أيضاً عند المسلمين وذلك بتوجيه القرآن
الكريم (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) يوسف 111 وأيضاً قوله (فاقصص
القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف 176 بل إنّ الله سبحانه أمر المسلمين أن
يجيلوا النظر في مصائر الغابرين من الشعوب عِظة واعتباراً (أو لم يسروا في
الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) الروم9.
فدراسة التاريخ عند المسلمين ليست للتسلية و إضاعة الوقت و ملء الفراغ، أو
لمجرد المعرفة وحفظ الحكايات خاصة تاريخ الأمة الإسلامية على مر العصور وكر
الدهور؛ وإلاّ لما ذكر الله سبحانه تاريخ السابقين وقصص النبيين، بل قال
علماء الإسلام إن القرآن الكريم مداره على ثلاثة أغراض أولها تقرير العقيدة
في الله عز وجل، والثاني الأحكام والشرائع، والأخير عرض أخبار السابقين؛
وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن الكريم لأنها اقتصرت على الغرض الأول.
ولذلك صنف العلماء التاريخ ضمن العلوم التي تخدم الشريعة الإسلامية، إذ أن
َصِلَته بعلم الحديث لا تخفى ولذلك قيل (لم يُستعَن على الكذابين بمثل
التاريخ)، وقال سفيان الثوري:"لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم
التاريخ" لذلك صارت منزلة التاريخ منزلة عظيمة يقول ابن الأثير: "ومن رزقه
الله طبعاً سليماً وهداه صراطاً مستقيماً علم أن فوائدها أي فوائد دراسة
التاريخ كثيرة ومنافعها الدنوية والأخروية جمة غزيرة" والله تبارك وتعالى
استعمل التاريخ في الرد على أهل الكتاب (يا أهل الكتاب لم تحاجون في
إبراهيم وما أنزلت التوراة والأنجيل إلاّ من بعده أفلا تعقلون) آل عمران
65.
وهناك أمر آخر وهو أن علم التاريخ ليس حشداً للحوادث والمرويات وترديداً
لها فحسب بالرغم من أهمية ذلك وكونه اللبنة الأولى لهذا العلم ولكن يتبعه
أمر آخر جد خطير ألا وهو تعليل هذه الحوادث وإيجاد الخيط الرفيع الذي يربط
بين هذه الأحداث على امتداد الزمان لاستخراج مُعينات على فهم مجرى التاريخ
والحوادث المؤثرة فيه، فالتاريخ أصلاً موضوعه الإنسان والزمان كما قال
السخاوي في الإعلان بالتوبيخ: "أما موضوعه فالإنسان والزمان"فوحدة التصرف
البشري نلمحها في تصرفات الإنسان على امتداد الدهر كما يخبرنا القرآن (كذلك
قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) البقرة 118، وأيضاً قوله جل
وعلا (أتواصو به بل هم قوم طاغون) الذاريات 53، فقول الكافرين هو هو, وقول
المؤمنين يكاد يتطابق, انظر إلى رد النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله
الأصحاب رضوان الله عليهم أن يجعل لهم ذات أنواط (الله أكبر إنها السنن
قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم
آلهة), وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلق على كثير من المواقف
بقوله: ((إنما أهلك الذين من قبلكم))، أو ((إنه كان من قبلكم)) دلالة على
أن هذا القول وهذا الفعل يشبه ذاك.
ولقد انتبه لهذه النقطة العلامة ابن خلدون الذي كان له الأثر الواضح في
فلسفة التاريخ، ووضع علومه في المكان اللائق بها حتى اعترف له بذلك علماء
الغرب , يقول ابن خلدون في المقدمة بعد أن ذكر الجزئية الأولى وهي حشد
الروايات والأحداث: "وفي باطنه نظر وتحقيق, وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق,
وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق, فهو لذلك أصل أصيل في الحكمة وعريق,
وجدير بأن يعد في علومها وخليق" ويزيد الأستاذ سيد قطب هذه النقطة إيضاحاً
بقوله: "التاريخ ليس هو الحوادث إنما هوتفسير هذه الحوادث واهتداء إلى
الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتاتها وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات
متفاعلة الجزئيات ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان
والمكان"، أرأيت كيف نبه علماء المسلمين إلى أهمية تعليل الحوادث قبل علماء
الغرب بقرون، لا كما يتبجح العلمانيون اليوم.
وازدادت أهمية التاريخ ودراسته في العصر الحديث بل واستُخدِم كأداة مؤثرة
لتربية الشعوب وزيادة النعرة القومية فيها, فطفق القوم ينبشون الأرض
لشعوبهم ويحيون ما اندرس من وثنيات قديمة، كل ذلك لِيُحِلّوا هذه الروابط
الأرضية محل الرابطة الإسلامية الصافية، وليعمقوا النعرة القومية لدى
شعوبهم فتنفصل عرى الجسد الواحد، كل عضو يفخر بأنساب هلامية ووثنيات بائدة،
مسنوداً بالقوى الاستعمارية التي أسست البعثات العلمية في العالم الإسلامي
آنذاك، وجعلت في معيتها وحدة كشف أثري كما فعل نابليون حينما اجتاح مصر,
وشغل الناس بنبش الأرض بحثا عن أثار قديمة من فرعونية إلى فينقية إلى
مروية.
مما يدلل على أهمية التاريخ كذلك أن أصحاب المذاهب الفكرية استعانوا به
يطلبون الغوث في تأييد فلسفة مذاهبهم, وإيجاد الشواهد لها والسند التاريخي؛
فكارل ماركس مثلاً يرى أن التاريخ البشري كله يقوم على الصراع وأن وسائل
الإنتاج هي التي تتحكم في أخلاقه وقيمه بل حتى دينه، و نتيجة لاستقراء ناقص
للتاريخ، رأى أن المجتمع البشري ابتدأ بالشيوعية البدائية ثم بسبب اكتشاف
وسائل الإنتاج تحول إلى نظام الطبقات القديم سادة وعبيد ثم بفعل تطور جديد
في وسائل الإنتاج تحول إلى مرحلة الإقطاع ثم انتقل منها إلى الرأسمالية
رأسماليين وعمال ثم انتقل إلى الشيوعية حيث تنعدم الطبقات.
كذلك من المفكرين الأوربيين من نظر إلى التاريخ نظرة تقديس وإجلال وطلب منه
تفسير الوجود وتعليل النشأة الإنسانية مثل (دارون) الذي عمد إلى الحفريات
الأثرية ليثبت أن الإنسان والقرد يرجعان إلى أصل واحد، الأمر الذي يناقض
عقيدة الخلق المستقل للإنسان التي جاءت بها الأديان! وكل هذا التخبط حدث
لأن القوم لا يهتدون بوحي ولا أثارة من علم صحيح.
وأخيراً ونحن نتحدث عن التاريخ وتفسيره وأهميته أريد أن أخلص إلى جملة من الحقائق، هي:
أولاً: إن منهج الإسلام هو أول منهج عرفته الأرض وعُمّرت به ، لأن آدم عليه
السلام نبي ويقرر هذه الحقيقة ابن عباس رضي الله عنهما بقوله:" بين آدم
ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد".
ثانياً: لا بد من معرفة التصور الصحيح عن الإنسان والكون والحياة لأنها هي
إطار حركة التاريخ كما قال السخاوي:"والحاصل أنه فن يبحث فيه عن وقائع
الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم ... إلى أن يقول
أما موضوعه فالإنسان والزمان".
ثالثاً: إن الإسلام له من المبادئ والتصورات ما يصلح لئن تكون قواعد
ومحددات عامة تحكم دراسة التاريخ بنوعيها: من حيث إثبات الحقائق التاريخية
وصحتها بطرق علمية متفق عليها، ومن حيث الحكم على المنجز البشري وتقييمه من
حيث الخطأ والصواب.
والحمد الله رب العالمين .